فأبو حنيفة يجيز تراخي القبول إلى نهاية المجلس ، وللموجب الرجوع في الإيجاب ما دام المجلس قائماً ولم يصدر قبول ، وللمخاطب بالإيجاب خيار القبول طيلة قيام المجلس ، ولكن متى صدر القبول لزم العقد ، فلا يثبت خيار المجلس لأيٍّ من المتعاقدين .......... ] .
وهذه المادة مأخوذةٌ من المواد : 182 إلى 184 من المجلة ، والمعرزف أنَّ المجلة مأخوذةٌ من : [ أرجح الأقوال من مذهب السادة الحنفية ] .
واشتراط اتحاد المجلس في التعاقد لم يرد صريحاً في نصٍ شرعي ، بل استفيد من النصـوص [ باشارة النص ] ، فقوله عليه السلام : { المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا } .
وفي رواية : { البائعان بالخيار ما لم يفترقا } .
فالنص مسوقٌ لإثبات الخيار ما لم يتفرقا ، ففهموا من عدم التفرق .. [ اتحاد المجلس ] ، ثم توسعوا في بيان ما يقوم به المجلس وما ينفض به ، ليتقرر سقوط الإيجاب أو القبول ، فإن التقيا انعقد العقد ، ولا خيار بعد انعقاده .
و [ ما ] في النص مصدرية ظرفية ، معناها .. مدة ، وبدخولها على [ لم ] النافية ، نستطيع تأويل الحديث الشريف بالآتي : البيِّعان بالخيار مدة عدم تفرقهما , ولم يكن فهمهم هذا ضيِّقاً ليقتصر على كون المجلس موضعاً بعينه ، بل جعلوه قائماً في كلِّ حال يستطيع أحدهما الوقوف على مراد الآخر ، ولذلك – ففضلاً عن المشافهة - :
* أجازوا الرسالة – أي : إرسال الإيجاب مشافهةً مع رسول - .
* وأجازوا التعاقد بالكتاب - أي : إرسال الإيجاب كتابةً - .
* وأجازوا جريان التعاقد ضمناً .
* وأجازوا الانعقاد بين متباعدين بحيث يرى أحدهما الآخر ، ما لم يكن التباعد يؤدي إلى
التباسٍ واشتباهٍ في كلامهما .
* وأجازوا التعاطي الدَّال على التعاقد ، وهو ما كان بالفعل ومن غير إيجاب .
* وأجازوا البيع بالفعل ، وهو : ما كان فيه إيجاب وفعلٍ دلَّ على القبول .
ومما تقدم نصل – باختصار – إلى أن الأصل المعوَّل عليه في الباب هو :
1. أن يكون التعبير عن النية صحيحاً عند إيجاب الموجب .
2. أن يكون التعبير عن النية صحيحاً عند قبول القابل .
3. تطابق الإيجاب مع القبول بما يتحقق معه وصف [ الانعقاد ] .
وما ذلك إلا لكون النية أمر مكتوم يقوم في القلب ، والتعبير عنها يكون بأمور .. منها :
أ. اللفظ وما يقوم مقامه .. فـ [ إشارة الأخرس المعهودة نطقه ] ، و [ الكتاب كالخطاب ] ، والعادة [ لأن جريان العادة بالشئ كالنطق به ] .
ب. والفعل .. [ كالتعاطي ] في البيع .
ج. والآلة .. بالنسبة للجنايات .
د. والتعارف .. كما في ألفاظ الكنايات في الطلاق .
وعليه / فإضفاء تلك [ الشكلية ] القاتلة – إذا صحَّ التعبير – ليس هو إلا من قبيل :
• التيقن من مطابقة الإيجاب للقبول .
• التيقن من انعقاد العقد .
ولذلك عدَّدوا صوراً لما يدل على الإعراض عن التعاقد ، هي ليست إلاَّ مما يعد احتياطاً في الباب وتفريعاً وتنويعاً للجزئيات ، فلو لجأنا إلى : [ التقعيد ] و [ التأصيل ] ، لما وسعنا إلاَّ القول بضابطٍ نضعه في الباب .. [ كلُّ ما يدلُّ على عدم توافق الإرادتين في التعاقد لا يُعدُّ التعاقد معه قائماً ] ، ويؤيده ما في النهر كما نقله ابن عابدين بقوله : [ فالمراد بالمجلس : ما لا يوجد فيه ما يدل على الإعراض ،وأن لا يشتغل بمفوِّت له وإن لم يكن للإعراض ] .
إن التقعيد هو مما لجأ إليه المتأخرون ، ليسهل فهم الفقه ، ويسهل التخريج للأحكام الجديدة للمسائل الحادثة ، ويسروا – بذلك – كثيراً من العسر ، ووهدُّوا ما كان وعراً ، مما تطلسم حتى أضحى سراً !! .
وإذا علمنا أن الفقه قد نشأ في الأمة عن طريق المسائل ، ثم توسع الإمام الأعظم عليه الرحمة في الافتراض ، فأضفى عليه رونق الحياة ، ونضارة التجدد ، وصلابة الاحتواء لما يستـجد والهيمنة على ما ينجم ويحدث من الوقائع ، فحـريٌّ ألا نقف عند [ حرفية المنصوص ] في أيِّ مذهب ، بل نجاوزه إلى القاعدة ، ثم نقوم [ بالتخريج ] على الأصل المستظهر الذي تؤيده نصوص أيِّ مذهب .
ومن جهة أخرى علينا أن نعلم أنَّ الأصل في العقود هي [ الرضائية ] .. لا [ الشكلية ] في شريعتنا ، فالأخيرة هي سـمة [ القانون الروماني ] ، والأولـى هي سمة [ الفقه الإسلامي ] ، والعكس هو الإستثناء في كليهما ، كما في التسليم [ يداً بيد ] في بعض المقايضات لدفع شبهة الربا ، في حين هـذا التسليم والتسلم للنقد في [ عقد الصرف ] في زماننا أصبح متعذراً تعذراً واقعياً ، بسبب ضخامة الأموال التي يجري استبدالها وتحويلها في آن واحد ، وللخروج من الإشكال أمامنا طريقان :
أولهما / اعتبار ورقة تأييد إجراء التحويل ، بمثابة القبض يداً بيد .
ثانيهما / قبول ما عليه التعامل ، باعتباره كلاً لا يتجزأ ، وهو من الجديد الذي لم يكن معروفاً من قبل ، نعم .. لو شككنا في وجود شبهة الربا ، فالواجب الخروج منها ببديلٍ من الفقيه يتَّفق مع التعامل الجاري ، مع مراعاة مصلحة المسلمين في ضوء واقعٍ لا يستطيعون تغييره بحال .
وأقول / إذن ما ذكر من [ أمر المجلس ] ليس مقصوداً لذاته ، ولو كان كذلك لكان التوسع في معناه غير مقبولٍ ، إذ [ الاستثناء لا يُتوسع فيه ، ولا ينقلب أصلاً ] ، ولــذلك قال أصحابنـا بـ [ الاستحسان ] ، وما حقيقته إلا بيان لما جاء على خلاف الأصل ، والوجه في مجيئه ، وبالتالي لا نقيس عليه غيره .. لأن [ مـا جاء على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس ] ، و [ ما جاز لعذرٍ بطل بزواله ] .. فيبقى على استثنائيته .. وإنما المقصود التأكد من بقاء الموجب على إيجابه ، وصحة التقاء القبول به ، وقد ورد النص الفقهي قبلاً المنفول عن النهر .
على أن ما اشترطه في النهر من : عدم الاشتغال بغيره ليكون المجلس متحداً ، فيه حرجٌ عظيم ، وفيه دفع الناس للوقوع في المنهي عنه [ المُتَوَهَم ] ، إذ قد يساوم البائع أكثر مـن واحدٍ ، فينصرف عن هذا إلى ذاك ، فإذا قبل السابق فينبغي على مقتضى قولهم ألاَّ يصح العقد !! ، وهذا التحيُّن الشديد لإسقاط [ المجلس ] لا يكون إلاَّ في المشرَّع استثناءً .. كالشفعـة ، حيث أحاطها الشارع الحكيم بشكليَّاتٍ لو تأخر أحدها سقط ذلك الحق ، في حين حقُّ البيع ليس استثناءً ، بل هو حقٌّ أصيل ، ويستفاد من كثيرٍ من النصوص المعروفة .
لقد كان الأحناف – رحمهم الله – في الدقة الفقهية بالمكان المرموق المعروف ، بسبب الركون إلى الفهم دون الوقوف عند ظاهر النص الشرعي ، فإذا كان الأمر في النصوص الشرعية كذلك .. ففي الفقهية من بابٍ أولى .. :
1. أ رأيت .. قولهم بـ [ دلالة الاقتضاء ] في الأحاديث الشريفة : { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب } ، و { لا نكاح إلاَّ بوليٍّ وشاهدي عدل } .
ومصداقه : أنَّ نفي الصلاة مع وجودها ولو من غير قراءة الفاتحة ، فهو مكابرة بسبب ما يُرى من الظاهر الواضح ، وإنكار الحديث مخاطرة .. نظراً لثبوته ، فينبغي الخروج من التعارض بتقدير لفظٍ يستقيم به المعنى ، على أن يكون فيس أضيق نطاق ، لأن عندهم : [ لا عموم للمقتضى ] ، وذلك بسبب استثنائية الاقتضاء ، ومن منطلق عدم التوسع في الاستثناء ، فقالوا : المعنى لا صلاة فاضلة ، وعدم أفضليتها لا يعني بطلانها ، بل دنو الرتبة فقط ! .
وكذا القول في : الوليِّ والشاهدين ، فإنكار الحديث مخاطرة ، وإنكار وجود التعاقد عند وجود : الإيجاب والقبول .. يكون مكابرة ، لذلك قالوا : نقدِّر لفظاً يستقيم به المعنى ، فيكون بعد التقدير : لا عقد صحيحاً بدونهما ، بل يكون العقد [ فاسداً ] بناءً على نظريتهم .
2. أ رأيت .. جعلهم لحديث : { إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرِّم عليكم } .. [ يعني أنَّه لم يقتصر بالشفاء على المحرَّمات ، بل جعل لنا مندوحةً وغنىً عن المحرمات بما أباحه لنا من الأغذية والأدوية ، حتى لا يضرنا فقد [ فقدان ] ما حرم في أمور دنيانا ] .
3. أ رأيـت .. تقريرهم قاعدة : [ تخصيص الشئ بالـذكر لا يـنفي ما عـداه ] ، وقاعدة : [ التنصيص لا يدل على التخصيص ] .
وتطبيقات القاعدتين كثيرة ، منها :
• قـوله تعـالى : { حرِّمت عليكم .. وربـائبُكم اللاتي في حُجُوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ .. } فالتي لم تكن في حجر زوج الأم .. تحرم عليه أيضاً ! .
• وقوله نعالى : { يا أيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاَّ أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم .. } . يــقول الإمام أبو الثناء الآلوسي البغدادي الحنفي ، في تفسيره روح المعاني : [ .. وتخصيصها – التجارة – بالذكر من بين أسباب الملك ، لكونها أغلب وقوعاً ، وأوفق لذوي المروءات … ، وجوَّز أن يُراد بها انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان : تجارةً ، أو إرثاً ، أو هبةً ، أو غير ذلك ، من استعمال الخاص وإرادة العام … ] .
• و قوله عليه السلام : { الماء من الماء } ، لا يعني عدم وجوب الغسل الإكسال ، عند التقاء الختانين من غير إنزال .. بناءً على ما قرروه من قاعدة في الباب .
مما تقدم .. يكون حديث : { البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا } ، هو لبيان أكثر ما عليه الناس في تعاقدهم ، ألا وهو اجتماع المتبايعين معاً في مجلس واحدٍ .. وإلاَّ فما قولك في :
التعاقد بالرسالة .. والتعاقد بالكتابة ؟ ! .
نعم .. قد يجعلون : الرسول الوكيل عن المُرسِل ، والناقل للكتاب الموكَّل عنه ، وليست مهمته مجرد نقل الكتاب ، جعلتهما [ بمثابة ] الأصيل ، لأجل سماع القبول من : المرسل إليه .. والمنقول الكتاب له ، لكن يبقى كلٌّ منهما ليس [ بيِّعاً ] ، ولا متعاقداً ، ووكالتهما لا تتعدى سماع القبول ، ولكي يعتبر العقد منعقداً في : بلد صدور القبول ، وفي لحظة صدوره .. وبالتالي تترتب آثار العقد في تلك اللحظة .
ومما تقدَّم .. - وتطبيقاً للقواعد المتقدمة - يكون معنى الحديث الشريف بمجموعه ، هو الآتي :
1. كلُّ متبايعٍ هو بالخيار ، مدة عدم التفرق .
2. والتبايع لا يُقصر على أن يكون بين اثنين ، فقوله عليه السلام : { المتبايعان .. } لا يدل على أنَّ التعاقد لا يكون إلاَّ بين اثنين ، بل يجوز أن يتم بين أطرافٍ عدِّة ، وعلى هذا الإجماع
3. كذلك لا يقتصر التعاقد على المجلس اللغوي ، بل يعني : كلُّ مفاوضة تجري بين أطرافٍ
تريد التعاقد .
4. كما لا يقتصر النص على البيع ، بل يتعداه إلى العقود الأخرى .. من : إجارةٍ ، وهبةٍ ، ووكالةٍ ، وصرف ، ومقايضة .. وغيرهما .
×××××××××××××××××××××××
وللتوجه المتقدم مؤيدات من النصوص الشرعية ..
1. أ رأيت .. قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقرٍّ لها ذلك تقدير العزيز العليم } ، فقد تبين – بعد قرون – أنَّ الشمس لا تجري ، وأن الأرض هي التي تجري لا الشمس !! .. وجوابه أن الله عزَّ وجلَّ خاطبهم بحسب ما يعلمون ويرون ، ولو قال لهم العكس ، لانقضى عمر النبيِّ الشريف وهو لم يُقنعهم بعد بعكس ما يرون ! .
2. وأ رأيت .. قوله تعالى : { يا أيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا .. } ، في حين نرى : آدم قد خلقه الله من غير أمٍّ ولا أبٍّ ، وخلقت حوَّاء من ذكرٍ ولا أنثى ، وخلق عيسى من أمٍّ ولا ذكر .. ويُخلق الآن بطريق التكرير [ الاستنساخ ] أناسٌ من ذكرٍ ولا أنثى ، ومن أنثى ولا ذكر !! . فهل لو قال لهم الشارع الحكيم ذلك من قبل ، هل كانوا يصدقون ، ولو دخل في اثباته ، كم سيستغرق الأمر من وقت ؟ ! .
ولهذا نستطيع القول بجواز التكرير [ الاستنساخ ] ، ولا تنهض هذه الآية حجةً للقائلين بالحرمة .
3. وأ رأيت .. قوله تعالى : { إن الله عنده عـلم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام .. } ، فقد ذهب قومٌ إلى أنَّ ذلك من المغيَّبات !! ، وأصبح اليوم ممكناً للناس ، فضلاً عن العلم المسبق به ! ، فذكره جرى على الأغلب الجاري في أزمنتهم ، ولا يمتنع من النصوص أن يكون ذلك ممكناً للآخرين ، فضلاً عن معلوميَّته ! .
4. وأ رأيت قوله تعالى : { يايُّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع .. } ، والمقصود ترك كلُّ ما يلهي عن السعي إلى الجُمُعة ، وتخصيص البيع بالذكر لكونه أكثر المُلهيات لهم في حينه ، وإلاَّ فالواجـب ترك كافَّة العقود ، وترك مشاهدة التلفزيون ، وترك الأعمال اليدوية .. الخ .
إذن .. [ تخصيص الشئ بالذكر لا ينفي ما عداه ] ، فذكر التفرق المستدل به على الاجتماع السابق له ، لا يعني أن العقود لا تنعقد إلاَّ بين من جمعهما مجلسٌ واحدٌ .
ويـؤيد فهمنا السابق حول المجلس ، وكـونه عارضٌ لا أصيل ، قول الجصاص رحمه الله عن قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاَّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ
قراءة و تحميل كتاب الالتزامات الشرعية الناشئة عن الارادة المنفردة (بحث فقهي موازن بالقانون الوضعي) PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب التأجير المنتهي بالتمليك - فقه مقارن المعهد العالي للقضاء PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب التعاقد على ما يثبت في الذمة وجواز السلم في العقار PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب التعويض عن الأضرار الناشئة عن التقاضي PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب التعويض عن تفويت منفعة انعقد سبب وجودها PDF مجانا