فقد اشتبه على كثير من إخواننا - الذين نحسبهم على خير في كل ما يبذلونه لخدمة دينهم ورفعة إسلامهم - حقيقة مذهب السلف في قضية التفويض ، حيث ظنوا أن مذهب السلف في نصوص الصفات - أو ما يطلقون عليه الصفات الخبرية أو النصوص الموهمة للتشبيه والجسمية - هو تفويض معاني النصوص والكف عن طلب العلم بها ، ويجعلون دليلهم في ذلك ، ما ثبت عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله ، أن رجلا جاءه وقال له : يا أبا عبد الله : { الرحمن على العرش استوى } (1) ، كيف استوى ؟! فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فإني أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج (2).
والحقيقة أننا إذا دققنا النظر في قول الإمام مالك رحمه الله ، علمنا أنه فرق في جوابه بين أمرين أساسيين ، هما أصل الفهم الذي امتاز به السلف الصالح عن غيرهم في باب الصفات ، أولهما : معنى الاستواء على العرش ، أو معاني الألفاظ التي ورد بها الأدلة السمعية في باب الصفات وسائر الغيبيات بوجه عام ، وثانيهما : كيفية الاستواء على العرش أو الكيفية الغيبية التي تؤول إليها دلالة هذه الألفاظ ، فالمعنى الوارد في نصوص الكتاب والسنة يستوعبه الذهن من خلال فهمه للألفاظ العربية التي نزل بها الوحي ، أما الكيفية فهي المدلول الحقيقي الذي ينطبق عليه اللفظ ، فلفظ الاستواء في الآية السابقة ، لفظ ينطبق على صفة من صفات أفعال الله ، لها كيفية حقيقية غيبية تليق بجلاله ، ما رأيناها ، لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : ( تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت ) (1) .
وكذلك الكيفية لا تخضع لأقيستنا التمثيلية والشمولية ، لأننا ما رأينا لها مثيلا نصفها أو نحكم عليها من خلاله ، وذلك ما نص عليه قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } (2) ، فاللفظ احتوى على مدلول حقيقي يثبت وصف الله عز وجل بالاستواء على العرش ، وقد أمرنا أمر الله بالإيمان به والتصديق بوجوده.
ولما غضب الإمام مالك على السائل ، غضب لأنه جاء يسأل عن كيفية الاستواء الغيبية التي تخرج عن إدراك أجهزة الحواس البشرية ، ولا يمكن للإمام مالك رحمه الله أن يخترع له جوابا يصف فيه الكيفية التي عليها استواء الله على العرش ، لعلمه أن ذلك قول على الله بلا علم ، وقد قال الله عز وجل : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } (1) ، وقال أيضا : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } (2) .
أما لو جاء السائل مالكا يسأله عن معنى الاستواء في لغة العرب التي خاطبنا الله بها ، أو سأله عن الآية : { الرحمن على العرش استوى } (3) ، ما الذي تضيفه للمسلم في موضوع الإيمان بالله ؟ لما غضب عليه مالك ، إذ أن حق السائل على أهل العلم ، البيان والفهم ، وأن يدرك معاني نصوص القرآن والسنة ، وقد أمره الله بذلك فقال : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } (4) .
والجواب عند ذلك بين واضح ، ومعنى الكلام معلوم مفهوم ، ولن يعجز الإمام مالك عن الإجابة ، إذ أن استواء الله على عرشه ، له وجود حقيقي غيبي ، ويعنى في اللغة العلو والارتفاع ، تماما مثلما يسأل صاحب اللسان الأعجمي عن ترجمة هذه الآية ، فإن المترجم لن يترجم له ما لم يره من الكيفية التي عليها الاستواء ، ولا يمكنه ذلك بحال من الأحوال ، وإنما سيشرح له بلغته معنى العلو والارتفاع على العرش ، وأن الله ليس كمثله شيء في استوائه ، ويبين له ضرورة الإيمان بوجود حقيقة الاستواء ، وأن له كيفية معينة تليق بجلال الله ، يعلمها الله عز وجل ولا نعلمها نحن إلى غير ذلك مما يبين مراد الله من الآية .
فالآية أوجبت الإيمان باستواء حقيقي ، لا نعلم كيفيته ويجب أن نسلم لله به وعلى ذلك ، فإن معتقد الإمام مالك الذي يمثل مذهب السلف الصالح ، هو تفويض العلم بالكيفية الغيبية فقط ، أما المعنى فهو معلوم ظاهر من لغة العرب ومراد مفهوم من الآية ، وهذا واضح بين في كلامه ، حيث قال : الاستواء غير مجهول أي معلوم المعنى ، والكيف غير معقول أي مجهول للعقل البشرى بسبب عجزه عن إدراكه .
ومن ثم لو قلنا كما قال الخلف من الأشعرية ، بأن مالكا فوض العلم بالمعنى لا الكيفية ، فإن ذلك يؤدى إلى لوازم عديدة ، أبرزها القول بأن كلام الله بلا معنى ، وسبب ذلك هو الخطأ في فهم اعتقاد مالك ، أو عدم التوفيق في فهم حقيقة المذهب السلفي ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معقبا على قول مالك في الاستواء : ( وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول ، فليس في أهل السنة من ينكره ، وقد بين أن الاستواء معلوم ، كما أن سائر ما أخبر به معلوم ، ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك رحمه الله الكيف معدوم ، وإنما قال الكيف مجهول ) (1) .
وإلحاقا بهذا الموضوع يأتي هذا البحث الذي يتناول العلاقة بين فهم قضية المحكم والمتشابه وأثر ذلك على القول بالتفويض ، كيف تطرد القضيتان سلبا وإيجابا ؟ وقد قسمت البحث بعد المقدمة إلى مبحثين وخاتمة
تناول البحث قضية المحكم والمتشابه وأثرها على القول بالتفويض ، أو بتعبير آخر العلاقة بين المحكم والمتشابه الذي ورد في قوله تعالي : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } (آل عمران:7) ، وأثر ذلك على القول بالتفويض ، والبحث مقسم بعد المقدمة إلي مبحثين وخاتمة ، تناول المبحث الأول موقف السلف والخلف من المحكم والمتشابه وقضية التفويض ، وقد اشتمل على ذكر المقصود بمصطلح السلف والخلف ، سواء بالنسبة للعامل الزمني أو العامل المنهجي ثم تعريف المحكم والمتشابه والتفويض لغة واصطلاحا ، وحصر الآراء التي فسرت معنى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم ، ثم تناول المبحث طرح الرؤية السلفية في فهم المعنى والكيفية وعلاقته بالمحكم والمتشابه بأسلوب بسيط .
أما المبحث الثاني فقد تناول العلاقة بين فهم المحكم والمتشابه وقضية التفويض ، وقد اشتمل على ذكر حقيقة مذهب الخلف في نصوص الصفات ، وأمثلة معاصرة على اعتقاد الخلف أن مذهب السلف هو التفويض ، ثم تناول الحديث عن أثر عقيدة التفويض في الدعوة إلى عدم الكلام في نصوص الصفات عند العوام ، وأيضا أسباب القول بالتفويض ولوازمه . وقد اشتملت الخاتمة على أبرز النتائج ، وكان من أهمها التنبه إلى خطورة القول بالتفويض ، وسلب كلام الله عن معناه ، أو محاولة تقبيح إثبات الصفات في نفس السامع ، تحت مسمى التجسيم وإثبات الأعضاء والجوارح لله ، وأنه بالمقارنة بين موقف السلف والخلف من قضية المحكم والمتشابه وعلاقتها بمسألة التفويض ، يظهر أن الفهم الصحيح لمعنى المحكم والمتشابه سوف يؤثر إيجابا أو سلبا على ظهور الحق في قضية التفويض .
قراءة و تحميل كتاب التدبر حقيقته وعلاقته بمصطلحات التأويل والاستنباط والفهم والتفسير دراسة بلاغية تحليلية على آيات من الذكر الحكيم PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز (ت. قولاج) PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب النسخ في القرآن الكريم - المجلد الاول PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب الإعجاز في دراسات السابقين دراسة كاشفة لخصائص البلاغة العربية ومعاييرها PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب قواعد التدبر الأمثل ل الله عزوجل تأملات PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب إسعاف طلاب القرآن من بدع قراء آخر الزمان PDF مجانا