كتاب عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآنكتب إسلامية

كتاب عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن

يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [التحريم: 1، 2]. يستعمل القرآن الكريم ألطف الألفاظ وأرقها في معاتبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفيما يلي جملة من الأساليب الرقيقة التي استخدمت في معاتبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فمن ذلك: أ- في عتابه بشأن حادثة عبد الله بن أم مكتوم، جاء العتاب في سياق الغيبة لتخفيف وطأة المعاتبة على نفسه، كما أن في توجيه العتاب المباشر مواجهة تجريح وإزالة لحاجب التقدير والتكريم، والتدرج من الغيبة إلى الخطاب تهيئة للنفس لاستقبال الموقف.. ولإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه – صلى الله عليه وسلم – مثله[1]. يقول تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 1 – 16] ب – وكذلك في عتابه بشأن أخذ الفداء من أسرى بدر، جاء العتاب بصيغة الغيبة أولاً، وبذكر إباحة ذلك لهم مباشرة ثانيًا، ولم يكتف النص على الإباحة بالأكل من الغنيمة بل وصفه بالحلال الطيب وختم الآية بالنص على المغفرة والرحمة لئلا يبقى أثر لتحرج النفس وفي كل ذلك تخفيف من وطأة العتاب وشدته على نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، يقول تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 67 – 69]. جـ- وفي معاتبته بعد الإذن للمنافقين بالتخلف يوم العسرة، قدّم لفظ العفو قبل ذكر العتاب تكريمًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – جل شأنه: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43]. د- وجاء تنبيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على تركه ذكر المشيئة ﴿ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ في سورة الكهف بعد أن أجاب عن الأسئلة الموجهة إليه والتي كانت مجال الإرجاء فعندما سألته قريش بتحريض من اليهود أن يخبرهم عن فتية ذهبوا في الدهر الأول وكان من أمرهم عجب وأن يخبرهم عن رجل طواف في الآفاق وكان من أمره عجب… قال لهم إيتوني غدًا وسأخبركم بذلك ولم يستثن فلبث الوحي بضعة عشر يومًا حتى أرجف أهل مكة…. فلم يعاتبه بترك المشيئة أو تذكيره بها إلا بعد الإجابة عن قصة أهل الكهف وفي نهايتها ذكره بها بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 23- 24]. وهذا منتهى التلطف والتكريم والتنبيه على أمر ينبغي أن يكون الأمر عليه، ولو نبهه أولاً ثم أجاب على الاستفسارات لتوهم الإعراض عنه، ولربما لم يزل أثره بفرح الحصول على الإجابة، وفي ذلك إلحاق غم وكمد بقلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. أما إذا جاء الجواب أولاً وتمت الفرحة والبشارة بالحصول على الجواب، وأثناء الابتهاج سيق التنبيه بأسلوب لطيف لم يترك العتاب والتنبيه أثرًا يذكر. هـ- وفي هذه السورة جاء العتاب لطيفًا رقيقًا في غاية الترفق فقد افتتح العتاب بندائه بوصف النبوة، وفيه من التشريف والتكريم والتطمين على أن ما يذكر بعد لا يؤثر على مقامه العالي فهو النبي المكرم. ولو بدأه بالعتاب فقال ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ ﴾، لفرق قلبه عليه الصلاة والسلام ولترك أثرًا كبيرًا ولو جاء الترفق بعد ذلك، وهذا أسلوب الحبيب الذي لا يريد إلحاق أي هزة عاطفية في قلب حبيبه مهما كانت الهزة مغلفة بالأساليب الرفيقة الرقيقة. ثم يأتي العتاب في صيغة سؤال تلطف ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ ومن الأمور المخففة لآثار العتاب ذكر السبب الدافع لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا التحريم ﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ﴾، وبيان أن هذا السبب غير معتبر في الامتناع والتحريم فالغيرة ليست مما يجب مراعاته بين الأزواج إذ لم يكن هضم لحقوقهن، فهناك من الأشياء الدافعة للغيرة ينبغي أن لا يؤبه لها. وعذر النبي – صلى الله عليه وسلم – في فعله هو جلب رضى الأزواج، وهذا من حسن معاشرته عليه الصلاة والسلام معهن، لكن الغيرة التي نشأت بينهن إنما هي معاكسة بعضهن بعضًا، وهذا مما يخل بحسن العشرة بينهن، فأخبره الله أن اجتهاده هذا غير معتبر وعاتبه على ذلك. ثم أزال آثار هذا العتاب عن نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بتذييل الآية بذكر المغفرة والرحمة فعتاب الله لرسوله دليل على مزيد العناية والاهتمام به، والله ساتر لما أوجب المعاتبة رحيم يدفع المؤاخذة. ثم أصبح الحكم عامًا فيمن حلف، فرض الله له تحلة اليمين، وتحلة اليمين ذكرت بالتفاصيل في سورة المائدة: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾ [المائدة: 89]. ففي كل ذلك إزالة لآثار ما قد يعلق في النفس من كدورة بسبب العتاب. ولله في كتابه أسرار وعبر. و- وهناك نوع آخر من العتاب الشديد الموجه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مباشرة ويختلف في الأسلوب عن الألوان السابقة في العتاب وذاك في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 37- 39]. هذا الأسلوب في العتاب يختلف في الشدة والعنف عن الأساليب السابقة، وذلك لأنه يتعلق بأمر تبليغ أحكام الله ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾. ولذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “لو كتم محمد – صلى الله عليه وسلم – شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله شيئًا لكتم ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾[2]. ونظرًا لخطورة قضية التبليغ وما يتعلق بها فقد أعقبت الآية الشديدة بآية أخرى فيها تعليل ودفاع عن موقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إخفاء قضية زواجه بزينب بعد طلاق زيد لها، فإنه كان مأمورًا من الله تعالى بأن يزوّج زينب من زيد بن حارثة، وقد أعلمه الله أنه سيتم الطلاق وستكون زينب زوجًا له – صلى الله عليه وسلم – وذلك قبل اقتران زيد بها. وذلك لإبطال عادة التبنّي التي ما كانت لتنتهي بسهولة من المجتمع لولا هذه الهزة العنيفة بتطبيقها عمليًا في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فجاء قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾. فالرسول في ذلك يطبق أمر الله، وسنة الله في الأنبياء والمرسلين أن يكونوا أول من يلتزم بشرائع الله وأحكامه ويطبقونها على أنفسهم وعلى من تحت ولايتهم، كما تأتي الآية اللاحقة لتبين دور الرسل وأنه الالتزام والتبليغ ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾. وهو في نفس الوقت تبرير وتوضيح وتعليل فيكون بتقديم الآية التي نصت على قضاء الله سبحانه وتعالى وقضاء رسوله الذي ينفي الخيرة للمؤمنين والمؤمنات وتعقيب الآيات المبينة لسنة الله في الرسالات وبيان مهمتهم في التبليغ، يكون في كل ذلك تبرير وتعليل لما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إخفاء الأمر في نفسه وخشية الناس وكلامهم أن يقولوا إن محمدًا تزوج بزوج متبناه. لقد عرض القرآن كثرًا من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومشاهد حياته وأحداث سيرته الخاصة والعامة، وقد استدرك القرآن على رسول الله بعض مواقفه في بعض أقواله وأفعاله وعاتبه الله في بعض ما صدر عنه من ذلك وسجلت آيات القرآن ذلك الاستدراك والعتاب، وستبقى تتلى حتى يوم القيامة. وفي هذا الكتاب تناول المؤلف عصمة الرسول ومعناها، وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من سرقة طعمة بن أبيرق، وأمر الرسول بالبقاء مع المسلين المستضعفين، وعتاب الرسول بشأن أسرى بدر، وإذن الرسول للمتخلفين عن غزوة تبوك، وصلاة الرسول على زعيم المنافقين، ثبات الرسول أمام مساومات الكفار، ونسيان الرسول قول: إن شاء الله، وإلقاء الشيطان في أمنية الرسول، وزواج الرسول من زينب بنت جحش، وتحريم الرسول على نفسه الحلال لمرضاة أزواجه، وعتاب الرسول بشأن عبد الله بن أم مكتوب رضي الله عنه.
د.صلاح عبدالفتاح الخالدي - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرباني ❝ ❞ أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب ❝ ❞ سيد قطب الأديب الناقد والداعية المجاهد والمفكر المفسر الرائد ❝ ❞ التفسير والتأويل في القرآن ❝ ❞ عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن ❝ ❞ سعد بن أبي وقاص السباق للإسلام المبشر بالجنة والقائد المجاهد ❝ ❞ تصويبات في فهم بعض الآيات ❝ ❞ الشخصية اليهودية من خلال القرآن تاريخ-وسمات-ومصير ❝ ❞ وعود القرآن بالتمكين للإسلام ❝ الناشرين : ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار العلوم للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار عمار - عمان ❝ ❱
من كتب إسلامية متنوعة - مكتبة كتب إسلامية.

وصف الكتاب : يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [التحريم: 1، 2].

يستعمل القرآن الكريم ألطف الألفاظ وأرقها في معاتبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفيما يلي جملة من الأساليب الرقيقة التي استخدمت في معاتبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فمن ذلك:

أ- في عتابه بشأن حادثة عبد الله بن أم مكتوم، جاء العتاب في سياق الغيبة لتخفيف وطأة المعاتبة على نفسه، كما أن في توجيه العتاب المباشر مواجهة تجريح وإزالة لحاجب التقدير والتكريم، والتدرج من الغيبة إلى الخطاب تهيئة للنفس لاستقبال الموقف.. ولإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه – صلى الله عليه وسلم – مثله[1].

يقول تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 1 – 16]

ب – وكذلك في عتابه بشأن أخذ الفداء من أسرى بدر، جاء العتاب بصيغة الغيبة أولاً، وبذكر إباحة ذلك لهم مباشرة ثانيًا، ولم يكتف النص على الإباحة بالأكل من الغنيمة بل وصفه بالحلال الطيب وختم الآية بالنص على المغفرة والرحمة لئلا يبقى أثر لتحرج النفس وفي كل ذلك تخفيف من وطأة العتاب وشدته على نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، يقول تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 67 – 69].

جـ- وفي معاتبته بعد الإذن للمنافقين بالتخلف يوم العسرة، قدّم لفظ العفو قبل ذكر العتاب تكريمًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – جل شأنه: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43].

د- وجاء تنبيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على تركه ذكر المشيئة ﴿ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ في سورة الكهف بعد أن أجاب عن الأسئلة الموجهة إليه والتي كانت مجال الإرجاء فعندما سألته قريش بتحريض من اليهود أن يخبرهم عن فتية ذهبوا في الدهر الأول وكان من أمرهم عجب وأن يخبرهم عن رجل طواف في الآفاق وكان من أمره عجب… قال لهم إيتوني غدًا وسأخبركم بذلك ولم يستثن فلبث الوحي بضعة عشر يومًا حتى أرجف أهل مكة….

فلم يعاتبه بترك المشيئة أو تذكيره بها إلا بعد الإجابة عن قصة أهل الكهف وفي نهايتها ذكره بها بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 23- 24].

وهذا منتهى التلطف والتكريم والتنبيه على أمر ينبغي أن يكون الأمر عليه، ولو نبهه أولاً ثم أجاب على الاستفسارات لتوهم الإعراض عنه، ولربما لم يزل أثره بفرح الحصول على الإجابة، وفي ذلك إلحاق غم وكمد بقلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. أما إذا جاء الجواب أولاً وتمت الفرحة والبشارة بالحصول على الجواب، وأثناء الابتهاج سيق التنبيه بأسلوب لطيف لم يترك العتاب والتنبيه أثرًا يذكر.

هـ- وفي هذه السورة جاء العتاب لطيفًا رقيقًا في غاية الترفق فقد افتتح العتاب بندائه بوصف النبوة، وفيه من التشريف والتكريم والتطمين على أن ما يذكر بعد لا يؤثر على مقامه العالي فهو النبي المكرم.

ولو بدأه بالعتاب فقال ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ ﴾، لفرق قلبه عليه الصلاة والسلام ولترك أثرًا كبيرًا ولو جاء الترفق بعد ذلك، وهذا أسلوب الحبيب الذي لا يريد إلحاق أي هزة عاطفية في قلب حبيبه مهما كانت الهزة مغلفة بالأساليب الرفيقة الرقيقة.

ثم يأتي العتاب في صيغة سؤال تلطف ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ ومن الأمور المخففة لآثار العتاب ذكر السبب الدافع لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا التحريم ﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ﴾، وبيان أن هذا السبب غير معتبر في الامتناع والتحريم فالغيرة ليست مما يجب مراعاته بين الأزواج إذ لم يكن هضم لحقوقهن، فهناك من الأشياء الدافعة للغيرة ينبغي أن لا يؤبه لها. وعذر النبي – صلى الله عليه وسلم – في فعله هو جلب رضى الأزواج، وهذا من حسن معاشرته عليه الصلاة والسلام معهن، لكن الغيرة التي نشأت بينهن إنما هي معاكسة بعضهن بعضًا، وهذا مما يخل بحسن العشرة بينهن، فأخبره الله أن اجتهاده هذا غير معتبر وعاتبه على ذلك.

ثم أزال آثار هذا العتاب عن نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بتذييل الآية بذكر المغفرة والرحمة فعتاب الله لرسوله دليل على مزيد العناية والاهتمام به، والله ساتر لما أوجب المعاتبة رحيم يدفع المؤاخذة. ثم أصبح الحكم عامًا فيمن حلف، فرض الله له تحلة اليمين، وتحلة اليمين ذكرت بالتفاصيل في سورة المائدة: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾ [المائدة: 89].



ففي كل ذلك إزالة لآثار ما قد يعلق في النفس من كدورة بسبب العتاب. ولله في كتابه أسرار وعبر.

و- وهناك نوع آخر من العتاب الشديد الموجه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مباشرة ويختلف في الأسلوب عن الألوان السابقة في العتاب وذاك في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 37- 39].

هذا الأسلوب في العتاب يختلف في الشدة والعنف عن الأساليب السابقة، وذلك لأنه يتعلق بأمر تبليغ أحكام الله ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾.

ولذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “لو كتم محمد – صلى الله عليه وسلم – شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله شيئًا لكتم ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾[2].

ونظرًا لخطورة قضية التبليغ وما يتعلق بها فقد أعقبت الآية الشديدة بآية أخرى فيها تعليل ودفاع عن موقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إخفاء قضية زواجه بزينب بعد طلاق زيد لها، فإنه كان مأمورًا من الله تعالى بأن يزوّج زينب من زيد بن حارثة، وقد أعلمه الله أنه سيتم الطلاق وستكون زينب زوجًا له – صلى الله عليه وسلم – وذلك قبل اقتران زيد بها. وذلك لإبطال عادة التبنّي التي ما كانت لتنتهي بسهولة من المجتمع لولا هذه الهزة العنيفة بتطبيقها عمليًا في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

فجاء قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾.

فالرسول في ذلك يطبق أمر الله، وسنة الله في الأنبياء والمرسلين أن يكونوا أول من يلتزم بشرائع الله وأحكامه ويطبقونها على أنفسهم وعلى من تحت ولايتهم، كما تأتي الآية اللاحقة لتبين دور الرسل وأنه الالتزام والتبليغ ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾.

وهو في نفس الوقت تبرير وتوضيح وتعليل فيكون بتقديم الآية التي نصت على قضاء الله سبحانه وتعالى وقضاء رسوله الذي ينفي الخيرة للمؤمنين والمؤمنات وتعقيب الآيات المبينة لسنة الله في الرسالات وبيان مهمتهم في التبليغ، يكون في كل ذلك تبرير وتعليل لما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إخفاء الأمر في نفسه وخشية الناس وكلامهم أن يقولوا إن محمدًا تزوج بزوج متبناه.


لقد عرض القرآن كثرًا من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومشاهد حياته وأحداث سيرته الخاصة والعامة، وقد استدرك القرآن على رسول الله بعض مواقفه في بعض أقواله وأفعاله وعاتبه الله في بعض ما صدر عنه من ذلك وسجلت آيات القرآن ذلك الاستدراك والعتاب، وستبقى تتلى حتى يوم القيامة.

وفي هذا الكتاب تناول المؤلف عصمة الرسول ومعناها، وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من سرقة طعمة بن أبيرق، وأمر الرسول بالبقاء مع المسلين المستضعفين، وعتاب الرسول بشأن أسرى بدر، وإذن الرسول للمتخلفين عن غزوة تبوك، وصلاة الرسول على زعيم المنافقين، ثبات الرسول أمام مساومات الكفار، ونسيان الرسول قول: إن شاء الله، وإلقاء الشيطان في أمنية الرسول، وزواج الرسول من زينب بنت جحش، وتحريم الرسول على نفسه الحلال لمرضاة أزواجه، وعتاب الرسول بشأن عبد الله بن أم مكتوب رضي الله عنه.


للكاتب/المؤلف : د.صلاح عبدالفتاح الخالدي .
دار النشر : دار القلم للنشر والتوزيع .
عدد مرات التحميل : 16315 مرّة / مرات.
تم اضافته في : السبت , 26 مارس 2016م.
حجم الكتاب عند التحميل : 5.5 ميجا بايت .

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [التحريم: 1، 2].

يستعمل القرآن الكريم ألطف الألفاظ وأرقها في معاتبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفيما يلي جملة من الأساليب الرقيقة التي استخدمت في معاتبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فمن ذلك:

أ- في عتابه بشأن حادثة عبد الله بن أم مكتوم، جاء العتاب في سياق الغيبة لتخفيف وطأة المعاتبة على نفسه، كما أن في توجيه العتاب المباشر مواجهة تجريح وإزالة لحاجب التقدير والتكريم، والتدرج من الغيبة إلى الخطاب تهيئة للنفس لاستقبال الموقف.. ولإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه – صلى الله عليه وسلم – مثله[1].

يقول تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 1 – 16]

ب – وكذلك في عتابه بشأن أخذ الفداء من أسرى بدر، جاء العتاب بصيغة الغيبة أولاً، وبذكر إباحة ذلك لهم مباشرة ثانيًا، ولم يكتف النص على الإباحة بالأكل من الغنيمة بل وصفه بالحلال الطيب وختم الآية بالنص على المغفرة والرحمة لئلا يبقى أثر لتحرج النفس وفي كل ذلك تخفيف من وطأة العتاب وشدته على نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، يقول تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 67 – 69].

جـ- وفي معاتبته بعد الإذن للمنافقين بالتخلف يوم العسرة، قدّم لفظ العفو قبل ذكر العتاب تكريمًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – جل شأنه: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43].

د-  وجاء تنبيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على تركه ذكر المشيئة ﴿ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ في سورة الكهف بعد أن أجاب عن الأسئلة الموجهة إليه والتي كانت مجال الإرجاء فعندما سألته قريش بتحريض من اليهود أن يخبرهم عن فتية ذهبوا في الدهر الأول وكان من أمرهم عجب وأن يخبرهم عن رجل طواف في الآفاق وكان من أمره عجب… قال لهم إيتوني غدًا وسأخبركم بذلك ولم يستثن فلبث الوحي بضعة عشر يومًا حتى أرجف أهل مكة….

فلم يعاتبه بترك المشيئة أو تذكيره بها إلا بعد الإجابة عن قصة أهل الكهف وفي نهايتها ذكره بها بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 23- 24].

وهذا منتهى التلطف والتكريم والتنبيه على أمر ينبغي أن يكون الأمر عليه، ولو نبهه أولاً ثم أجاب على الاستفسارات لتوهم الإعراض عنه، ولربما لم يزل أثره بفرح الحصول على الإجابة، وفي ذلك إلحاق غم وكمد بقلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. أما إذا جاء الجواب أولاً وتمت الفرحة والبشارة بالحصول على الجواب، وأثناء الابتهاج سيق التنبيه بأسلوب لطيف لم يترك العتاب والتنبيه أثرًا يذكر.

هـ- وفي هذه السورة جاء العتاب لطيفًا رقيقًا في غاية الترفق فقد افتتح العتاب بندائه بوصف النبوة، وفيه من التشريف والتكريم والتطمين على أن ما يذكر بعد لا يؤثر على مقامه العالي فهو النبي المكرم.

ولو بدأه بالعتاب فقال ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ ﴾، لفرق قلبه عليه الصلاة والسلام ولترك أثرًا كبيرًا ولو جاء الترفق بعد ذلك، وهذا أسلوب الحبيب الذي لا يريد إلحاق أي هزة عاطفية في قلب حبيبه مهما كانت الهزة مغلفة بالأساليب الرفيقة الرقيقة.

ثم يأتي العتاب في صيغة سؤال تلطف ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ ومن الأمور المخففة لآثار العتاب ذكر السبب الدافع لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا التحريم ﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ﴾، وبيان أن هذا السبب غير معتبر في الامتناع والتحريم فالغيرة ليست مما يجب مراعاته بين الأزواج إذ لم يكن هضم لحقوقهن، فهناك من الأشياء الدافعة للغيرة ينبغي أن لا يؤبه لها. وعذر النبي – صلى الله عليه وسلم – في فعله هو جلب رضى الأزواج، وهذا من حسن معاشرته عليه الصلاة والسلام معهن، لكن الغيرة التي نشأت بينهن إنما هي معاكسة بعضهن بعضًا، وهذا مما يخل بحسن العشرة بينهن، فأخبره الله أن اجتهاده هذا غير معتبر وعاتبه على ذلك.

ثم أزال آثار هذا العتاب عن نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بتذييل الآية بذكر المغفرة والرحمة فعتاب الله لرسوله دليل على مزيد العناية والاهتمام به، والله ساتر لما أوجب المعاتبة رحيم يدفع المؤاخذة. ثم أصبح الحكم عامًا فيمن حلف، فرض الله له تحلة اليمين، وتحلة اليمين ذكرت بالتفاصيل في سورة المائدة: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾ [المائدة: 89].

 

ففي كل ذلك إزالة لآثار ما قد يعلق في النفس من كدورة بسبب العتاب. ولله في كتابه أسرار وعبر.

و-  وهناك نوع آخر من العتاب الشديد الموجه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مباشرة ويختلف في الأسلوب عن الألوان السابقة في العتاب وذاك في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 37- 39].

هذا الأسلوب في العتاب يختلف في الشدة والعنف عن الأساليب السابقة، وذلك لأنه يتعلق بأمر تبليغ أحكام الله ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾.

ولذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “لو كتم محمد – صلى الله عليه وسلم – شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله شيئًا لكتم ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾[2].

ونظرًا لخطورة قضية التبليغ وما يتعلق بها فقد أعقبت الآية الشديدة بآية أخرى فيها تعليل ودفاع عن موقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إخفاء قضية زواجه بزينب بعد طلاق زيد لها، فإنه كان مأمورًا من الله تعالى بأن يزوّج زينب من زيد بن حارثة، وقد أعلمه الله أنه سيتم الطلاق وستكون زينب زوجًا له – صلى الله عليه وسلم – وذلك قبل اقتران زيد بها. وذلك لإبطال عادة التبنّي التي ما كانت لتنتهي بسهولة من المجتمع لولا هذه الهزة العنيفة بتطبيقها عمليًا في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

فجاء قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾.

فالرسول في ذلك يطبق أمر الله، وسنة الله في الأنبياء والمرسلين أن يكونوا أول من يلتزم بشرائع الله وأحكامه ويطبقونها على أنفسهم وعلى من تحت ولايتهم، كما تأتي الآية اللاحقة لتبين دور الرسل وأنه الالتزام والتبليغ ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾.

وهو في نفس الوقت تبرير وتوضيح وتعليل فيكون بتقديم الآية التي نصت على قضاء الله سبحانه وتعالى وقضاء رسوله الذي ينفي الخيرة للمؤمنين والمؤمنات وتعقيب الآيات المبينة لسنة الله في الرسالات وبيان مهمتهم في التبليغ، يكون في كل ذلك تبرير وتعليل لما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إخفاء الأمر في نفسه وخشية الناس وكلامهم أن يقولوا إن محمدًا تزوج بزوج متبناه.


 لقد عرض القرآن كثرًا من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومشاهد حياته وأحداث سيرته الخاصة والعامة، وقد استدرك القرآن على رسول الله بعض مواقفه في بعض أقواله وأفعاله وعاتبه الله في بعض ما صدر عنه من ذلك وسجلت آيات القرآن ذلك الاستدراك والعتاب، وستبقى تتلى حتى يوم القيامة.

وفي هذا الكتاب تناول المؤلف عصمة الرسول ومعناها، وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من سرقة طعمة بن أبيرق، وأمر الرسول بالبقاء مع المسلين المستضعفين، وعتاب الرسول بشأن أسرى بدر، وإذن الرسول للمتخلفين عن غزوة تبوك، وصلاة الرسول على زعيم المنافقين، ثبات الرسول أمام مساومات الكفار، ونسيان الرسول قول: إن شاء الله، وإلقاء الشيطان في أمنية الرسول، وزواج الرسول من زينب بنت جحش، وتحريم الرسول على نفسه الحلال لمرضاة أزواجه، وعتاب الرسول بشأن عبد الله بن أم مكتوب رضي الله عنه. 

عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن من كتب إسلامية



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن
د.صلاح عبدالفتاح الخالدي
د.صلاح عبدالفتاح الخالدي
Dr. Salah Abdel Fattah Al Khalidi
❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرباني ❝ ❞ أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب ❝ ❞ سيد قطب الأديب الناقد والداعية المجاهد والمفكر المفسر الرائد ❝ ❞ التفسير والتأويل في القرآن ❝ ❞ عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن ❝ ❞ سعد بن أبي وقاص السباق للإسلام المبشر بالجنة والقائد المجاهد ❝ ❞ تصويبات في فهم بعض الآيات ❝ ❞ الشخصية اليهودية من خلال القرآن تاريخ-وسمات-ومصير ❝ ❞ وعود القرآن بالتمكين للإسلام ❝ الناشرين : ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار العلوم للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار عمار - عمان ❝ ❱.



كتب اخرى في كتب إسلامية متنوعة

الإسلام والتفاهم والتعايش بين الشعوب PDF

قراءة و تحميل كتاب الإسلام والتفاهم والتعايش بين الشعوب PDF مجانا

الإسلام والآخر دراسة عن وضعية غير المسلمين في مجتمعات المسلمين PDF

قراءة و تحميل كتاب الإسلام والآخر دراسة عن وضعية غير المسلمين في مجتمعات المسلمين PDF مجانا

الإسلام والغرب رؤية محمد أسد PDF

قراءة و تحميل كتاب الإسلام والغرب رؤية محمد أسد PDF مجانا

وعود القرآن بالتمكين للإسلام PDF

قراءة و تحميل كتاب وعود القرآن بالتمكين للإسلام PDF مجانا

الإعجاز العلمي في قول الله تعالى وعلّم آدم الأسماء كلها PDF

قراءة و تحميل كتاب الإعجاز العلمي في قول الله تعالى وعلّم آدم الأسماء كلها PDF مجانا

الحروف الفواتح في القرآن الكريم الخطاب المعجز وسد منافذ الطعن PDF

قراءة و تحميل كتاب الحروف الفواتح في القرآن الكريم الخطاب المعجز وسد منافذ الطعن PDF مجانا

فى محاولات تقديم القرآن الكريم وترجمته والرد عليها PDF

قراءة و تحميل كتاب فى محاولات تقديم القرآن الكريم وترجمته والرد عليها PDF مجانا

كيفية التعامل مع أهل الكتاب في ضوء الكتاب والسنة PDF

قراءة و تحميل كتاب كيفية التعامل مع أهل الكتاب في ضوء الكتاب والسنة PDF مجانا

المزيد من كتب علوم القرآن في مكتبة كتب علوم القرآن , المزيد من كتب إسلامية متنوعة في مكتبة كتب إسلامية متنوعة , المزيد من إسلامية متنوعة في مكتبة إسلامية متنوعة , المزيد من كتب الفقه العام في مكتبة كتب الفقه العام , المزيد من كتب التوحيد والعقيدة في مكتبة كتب التوحيد والعقيدة , المزيد من مؤلفات حول الحديث النبوي الشريف في مكتبة مؤلفات حول الحديث النبوي الشريف , المزيد من كتب أصول الفقه وقواعده في مكتبة كتب أصول الفقه وقواعده , المزيد من التراجم والأعلام في مكتبة التراجم والأعلام , المزيد من السنة النبوية الشريفة في مكتبة السنة النبوية الشريفة
عرض كل كتب إسلامية ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..