❞ كتاب عز الدين القسام شيخ المجاهدين فى فلسطين ❝  ⏤ محمد محمد حسن شراب

❞ كتاب عز الدين القسام شيخ المجاهدين فى فلسطين ❝ ⏤ محمد محمد حسن شراب

محمد عز الدين بن عبد القادر القسام (1300هـ/1883م - 1354هـ/1935م) الشهير باسم عز الدين القسام، عالم مسلم، وداعية، ومجاهد، وقائد، ولد في بلدة جَبَلة من أعمال اللاذقية سنة 1883م، وتربى في أسرة متديّنة ومعروفة باهتمامها بالعلوم الشرعية، ثم ارتحل إلى الجامع الأزهر بالقاهرة سنة 1896م عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وتخرّج منه سنة 1906م، وعاد إلى بلده جبلة، حيث عمل مدرساً وخطيباً في جامع إبراهيم بن أدهم.

احتل الفرنسيون الساحل السوري في ختام الحرب العالمية الأولى سنة 1918م، فثار القسام في جماعة من تلاميذه ومريديه، وطارده الفرنسيون، فقصد دمشق إبان الحكم الفيصلي، ثم غادرها بعد استيلاء الفرنسيين عليها سنة 1920م، فأقام في حيفا بفلسطين، وتولى فيها إمامة جامع الاستقلال وخطابته، ورياسة جمعية الشبان المسلمين. واستطاع القسام في حيفا تكوين جماعة سرية عُرفت باسم العُصبة القسّامية، وفي عام 1935م شددت السلطات البريطانية الرقابة على تحركات القسام في حيفا، فقرر الانتقال إلى الريف حيث يعرفه أهله منذ أن كان مأذوناً شرعياً وخطيباً يجوب القرى ويحرض ضد الانتداب البريطاني، فأقام في قضاء جنين ليبدأ عملياته المسلحة من هناك.

إلا أن القوات البريطانية كشفت أمر القسام، فتحصن هو وبعض أتباعه بقرية نزلة الشيخ زيد، فلحقت القوات البريطانية بهم وطوقتهم وقطعت الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنه رفض واشتبك مع تلك القوات، وقتل منها خمسة عشر جندياً، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، وانتهت المعركة بمقتل القسام وثلاثة من رفاقه، وجُرح وأُسر آخرون. كان لمقتل القسَّام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، والتي كانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك.

ولد محمد عز الدين القسام في بلدة جبلة عام 1300هـ الموافق 1883م، واشتهر باسم عز الدين، ولكن اسمه مركب فهو محمد عز الدين، ولذلك ترجم له الزركلي في أعلامه في حرف الميم باسم محمد عز الدين، وهكذا جاء اسمه في رسالة النقد والبيان، وقد جرت عادة الناس في مثل هذا التركيب أن يشهروا الاسم الثاني ويهملوا الاسم الأول.

أما الأب: فهو عبد القادر بن مصطفى بن يوسف بن محمد القسام. وكان الجد مصطفى وشقيقه قد قدما إلى جبلة من العراق، وهما من المُقدَّمين في الطريقة القادرية المنسوبة إلى الإمام عبد القادر الجيلاني، ولهذا كان أنصار الطريقة القادرية في العراق يقدمون إلى جبلة لزيارة أضرحة عبد القادر ووالده مصطفى في جبلة، فكان عز الدين يردع هؤلاء، ويحثهم على الامتناع عن الحج إلى جبلة لهذا الغرض. تزوج عبد القادر القسام بامرأتين: أولاهما من قلعة المرقب، وهي آمنة جَلّول، فأنجب منها: أحمد ومصطفى وكاملاً وشريفاً. وثانيتهما من جبلة، وهي أم عز الدين، حليمة قصاب (أو القصاب)، وقال بعضهم إنها من آل نور الله، ولعل القصاب فخذ من آل نور الله، أو نور الله فخذ من آل القصاب. وأشقاء عز الدين منها: أمين وفخري (أو فخر الدين) وفاطمة (وفي رواية: نبيهة). وكان عز الدين سادس سبعة إخوة وأشقاء، وثاني ثلاثة أشقاء.

كانت أسرة عز الدين القسام تعيش على الكفاف والصبر على الفقر، ولكنّ رصيدها من الذكر الحسن كبير، فهي أسرة متديّنة، ولها حظ من العلم الشرعي، يحبها الناس لما لها من المكانة الدينية، فمنها أقطاب الطريقة القادرية، وكان للطرق الصوفية أنصار كثيرون في ذلك الزمان، وكان آل القسام مشهورين بالعلم والصلاح، يعطون ولا يأخذون، ويكسبون قوتهم من عملهم. ولكنّ المؤرخين اختلفوا في وصف حال عبد القادر القسام، فقالوا: إن عبد القادر القسام كان صاحب الطريقة القادرية، وقالوا: إنه رأس هذه الطريقة، والحقيقة أنه ورث الطريقة عن أبيه، وقد نقل أبوه هذه الطريقة من العراق حيث موطنه الأصلي، وقالوا: إن عبد القادر القسام عُرف بأنه كان حدّاداً، وأنه كان تقياً ورعاً ملمّاً بأصول الدين، وهذا ما جعله إماماً لجامع سوق الحدادين في وسط بلدة جبلة. وقالوا: إنه كان يدير كُتّأباً لتعليم الصبية تلاوة القرآن ومبادئ الكتابة. وقالوا: إنه كان يملك حاكورة يزرعها بمساعدة أولاده. وقالوا: إنه كان يعمل في أرض الأفندي. وقالوا أيضاً: إنه كان يعمل مستنطقاً في جبلة، ويقوم بكتابة أوراق النفوس أيام الدولة العثمانية. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال: أن هذه الأعمال والوظائف مرّ بها القسام ولم يجمع بينها، فاشتغل حداداً في زمن، واشتغل مستنطقاً في زمن آخر، وكان يُعلّم الأولاد القرآن في بعض أوقاته، وكان يصلي بالناس في جامع السوق مختاراً يُقدمه الناس للإمامة إذا حضر.

أما طفولة عز الدين فقد أمضاها في بلدة جبلة، قرأ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة والحساب في الكتاتيب، ودرس مبادئ العلوم الشرعية على والده، وتتلمذ في جبلة في زاوية الإمام الغزالي لشيخين عُرفا بسعة العلم والمعرفة في اللغة والتفسير والحديث والفقه، وهما الشيخ سليم طيارة البيروتي الأصل، والشيخ أحمد الأروادي، ولما آنس منه أبوه رغبة في العلم أرسله إلى الأزهر. وبعد عودته إلى جبلة اقترن بالسيدة أمينة نعنوع من جبلة، فأنجب منها ولداً ذكراً سماه محمد، وثلاث بنات هنّ: عائشة وميمنة وخديجة. وقد وُلد ابنه محمد في فلسطين، حيث كان عمره حين وفاة والده سبع سنوات، وبلغت ميمنة درجة عالية من الثقافة في حياة والدها.

رحلته إلى الأزهر
كان طلبة العلم يرتحلون في طلب العلم بعد أن تنفد المناهل العلمية في قريتهم ومحيطهم، وفي مطلع القرن الرابع عشر الهجري (أواخر القرن التاسع عشر الميلادي) لم يكن في جبلة إلا الكتاتيب التي تعلم أصول القراءة والكتابة وتلاوة القرآن وحفظه، ولم تكن قرى الساحل السوري ومدنه أوفر حظاً من جبلة، ولم تعد حلقات الدرس في الجامع الأموي بدمشق في المستوى الذي يستحق الرحيل إليه، فلم يبق إلا الجامع الأزهر في القاهرة، فارتحل إليه عز الدين القسام عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، سنة 1314هـ الموافق 1896م.


الجامع الأزهر سنة 1906م، وهي السنة التي تخرج فيها عز الدين القسام منه
أما طريقه إلى الجامع الأزهر فقد جاءت فيه ثلاث روايات: الأولى: إنه ركب قارب صيد من جزيرة أرواد إلى الإسكندرية، وانتقل من الإسكندرية إلى القاهرة براً. والثانية: إنه غادر متوجهاً إلى القاهرة، وكان يرافقه أخوه فخر الدين وعز الدين التنوخي ورضا مسيلماني ومصطفى مسيلماني وذيب البيرص وناجي أديب (ابن خالة عز الدين) ومنح غلاونجي. والثالثة: إنه ذهب مع أبيه عام 1896م إلى جزيرة أرواد القريبة ليسافر على أحد قوارب الصيد إلى الإسكندرية، فسافر عز الدين وابن خالته ناجي أديب وبرفقتهم أخوه فخر الدين وعز الدين التنوخي وبعض طلاب العلم. وتجتمع هذه الرواية مع الرواية الأولى في أنه سافر عن طريق جزيرة أرواد بقارب صيد، وتجتمع الثانية مع الثالثة في إثبات رفاق في الرحلة من أرواد إلى مصر.

هناك اتفاق بين الرواة على أن عز الدين القسام ارتحل إلى الأزهر عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وهناك اختلاف في المدة التي أمضاها في الدراسة، فمنهم من قال: إنها ثماني سنوات، ومنهم من قال: إنها عشر سنوات، وليس هناك إحصاء يبين المشايخ الذين تتلمذ عليهم القسام، ولا دراسة حول المنهج الدراسي والعلوم التي درسها، أو العلوم التي كان يميل إليها وتبحّر في دراستها. ومن المؤكد أن القسام لم يشهد نظام مراحل الدراسة، لأن تقسيم الدراسة الأزهرية إلى مراحل دراسية كان في سنة 1911م أي بعد مغادرة القسام الأزهر، وكانت الدراسة قبل هذا التاريخ تسير على طريقة الحلقات، دون نظام للقبول والامتحانات والشهادات، ودون التمييز بين مختلف المراحل الدراسية، ودون تحديد للمناهج. وبهذا نستطيع أن نقرر أن عز الدين القسام نال شهادة الأزهر العالية دون أن يمر بالمراحل الدراسية: الابتدائية فالثانوية، بل اعتمدت دراسته على الجهد الحر في الدراسة، وكان الانتقال من منزلة إلى أخرى بمقدار ما يستوعب من العلوم التي تؤهله للارتقاء إلى مصافّ العلماء. وكانت العلوم الشرعية (الفقه والتفسير والحديث والأصول) والمواد اللغوية (النحو والبلاغة) هي مدار الدراسة الأزهرية.

وقد روى عز الدين التنوخي زميل عز الدين القسام أن المال نفد منهما وهما في مصر يدرسان في الأزهر، فاقترح القسامُ أن يعدّ التنوخي الحلوى (الهريسة أو النمورة) وأن يقوما ببيعها، ليوفرا من ربحها حاجاتهما، ويستغنيا عن سؤال ذوي اليسار من رفاقهما، فاستفظع التنوخي الأمر وقال: «ولكني أخجل ولا أستطيع المناداة»، فأجابه القسام: «أنا أصيح على بضاعتنا»، وبهذه الوسيلة تمكن الاثنان من مواصلة الدراسة. وذات يوم جاء والد التنوخي لزيارته في القاهرة، وقبل دخوله الأزهر وجد ابنه إلى جوار القسام خلف صينية الهريسة، فسأل: «ما هذا؟» فأجابه ابنه محاولاً رد التهمة عن نفسه: «عز الدين علمني، وهو صاحب الفكرة»، فقال له: «حقاً لقد علمك الحياة»، وفي رواية أخرى: «لقد علمك الاعتماد على النفس، وكسب الرزق الحلال الطيب، وحفظ ماء الوجه من ذل السؤال».

العودة إلى جبلة
تخرّج عز الدين القسام من الأزهر سنة 1906م أو سنة 1909م، وعاد إلى أهله بعد أن أمضى عشر سنوات في جوار الأزهر، نال في نهايتها الإجازة العلمية الدالة على تضلعه في العلوم الإسلامية، ويظهر من نهجه الحياتي المستقبلي أنه لم يكن جمّاعةً حافظاً فقط، وإنما كان فقيهاً في كل ما جمع من العلوم والمعارف. وجعل عز الدين يُدرّس في جامع إبراهيم بن أدهم التفسير والحديث، ويلقي الخطب حاضّاً على التمسك بشعائر الإسلام والأخلاق الإسلامية.

كان المجتمع الريفي في ذلك الوقت ينقسم إلى طبقتين: طبقة الأفندية، وطبقة الفلاحين. أما طبقة الأفندية فقد امتلكت ثلاثة أرباع الأرض، وأما طبقة الفلاحين فإنهم كانوا يعملون في الأرض التي ورثوها عن أجدادهم بما يسدّ جوعهم، وتذهب أكثر خيراتها إلى الأفندية، وقد حرص عبد القادر القسام أن يصحب ابنه عز الدين إلى قصر الأفندي ديب الذي تعمل أسرة القسام في أرضه للسلام عليه وإعلامه بالعودة، ولكن عز الدين رأى في هذا الأسلوب عكساً للسنة، فالمقيم هو الذي يغشى العائد من سفره ويسلم عليه، وهذه هي سنة المسلمين وعرف الناس، ولذلك رفض الابن نصيحة أبيه، لأنه كان يريد أن يُجنّب نفسه وأباه المذلة، وأن يُصلح العُرف الخاطئ الذي سنّه الظالمون. وقد ضاق الأفندية ذرعاً بوجود عز الدين في هذا الريف الغافي على الظلم، لأنه أخذ ينبّه الغافلين ويرشد الضالين، فقد روى عبد الوهاب زيتون الجَبَلي «أن القوى الإقطاعية من أفندية الساحل السوري قد تألبت عليه، وأرادت نفيه إلى إزمير التركية للتخلص من صوته الجريء».

وبعد أمد قصير من عودته إلى الأهل جدّد العزم على الرحلة، فتوجّه إلى إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، وذلك ليطّلع على الأساليب المتّبعة في الدروس المسجدية. ولم يطل مقام القسام في البلاد التركية، لأنه شاهد في القرى والمدن التي زارها من الجهل ما روّعه، ورأى أن الجهل هو سبب كل تخلف وفساد، فعاد إلى بلدته جبلة وهو عازم على البداية من أول الطريق، وقرر أن يتولى تعليم الأطفال في الصباح، وتعليم الكبار في المساء، ووظف كل طاقته وإمكاناته في التعليم. ولتحقيق هذا الهدف فتح مدرسة في جبلة سنة 1912م درّس فيها الأطفال واليافعين نهاراً والرجال الكبار مساءً، بعد أن كان مدرساً في مدينتي بانياس واللاذقية، كما درّس الحديث وتفسير القرآن الكريم في جامع إبراهيم بن أدهم بجبلة، ثم عُيّن موظفاً في شعبة التجنيد بجبلة، فكان بعد فراغه من عمله يعقد الحلقات الدرسية في مساجد البلد.

وعندما صار خطيباً في جامع المنصوري في وسط البلدة كان المصلون يتوافدون إلى المسجد من أحياء البلدة القريبة والبعيدة ومن القرى المجاورة، «كانوا يتوافدون لسماع هذا النمط الجديد من خطب الجمعة التي تهز المشاعر، وتعالج المشكلات اليومية، وتتناول هموم المسلمين، وتقدّم لهم الإسلام غضاً طرياً بأسلوب سهل يفهمونه»، وكان الخطباء قد تعودوا أن يُسمعوا المصلين في كل خطبة كلمات الإطراء والحمد للأفندية والآغوات، أما عز الدين القسام فقد كسر العرف عندما اعتلى منبر جامع المنصوري فقال:

««إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» كونوا أعزة كرماء «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» ولا إيمان لمن رضي بالخنوع، واستكان للظلم، واستعذب العبودية للبشر.»
وكان يدعو المصلين إلى محاربة الفقر والبؤس بالعمل الدؤوب واستنباط خيرات الأرض، ويدعو الناس إلى التعاون والمحبة والإيثار.
محمد محمد حسن شراب - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الإمام الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب عالم الحجاز والشام ❝ ❞ عز الدين القسام شيخ المجاهدين فى فلسطين ❝ ❞ أبو عبيدة عامر بن الجراح أمين الأمة وفاتح الديار الشامية ❝ ❞ تميم بن أوس الداري رضي الله عنه راهب أهل عصره ❝ ❞ تميم بن أوس الداري رضي الله عنه راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين ❝ الناشرين : ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❱
من التراجم والأعلام - مكتبة كتب إسلامية.

نبذة عن الكتاب:
عز الدين القسام شيخ المجاهدين فى فلسطين

2000م - 1445هـ
محمد عز الدين بن عبد القادر القسام (1300هـ/1883م - 1354هـ/1935م) الشهير باسم عز الدين القسام، عالم مسلم، وداعية، ومجاهد، وقائد، ولد في بلدة جَبَلة من أعمال اللاذقية سنة 1883م، وتربى في أسرة متديّنة ومعروفة باهتمامها بالعلوم الشرعية، ثم ارتحل إلى الجامع الأزهر بالقاهرة سنة 1896م عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وتخرّج منه سنة 1906م، وعاد إلى بلده جبلة، حيث عمل مدرساً وخطيباً في جامع إبراهيم بن أدهم.

احتل الفرنسيون الساحل السوري في ختام الحرب العالمية الأولى سنة 1918م، فثار القسام في جماعة من تلاميذه ومريديه، وطارده الفرنسيون، فقصد دمشق إبان الحكم الفيصلي، ثم غادرها بعد استيلاء الفرنسيين عليها سنة 1920م، فأقام في حيفا بفلسطين، وتولى فيها إمامة جامع الاستقلال وخطابته، ورياسة جمعية الشبان المسلمين. واستطاع القسام في حيفا تكوين جماعة سرية عُرفت باسم العُصبة القسّامية، وفي عام 1935م شددت السلطات البريطانية الرقابة على تحركات القسام في حيفا، فقرر الانتقال إلى الريف حيث يعرفه أهله منذ أن كان مأذوناً شرعياً وخطيباً يجوب القرى ويحرض ضد الانتداب البريطاني، فأقام في قضاء جنين ليبدأ عملياته المسلحة من هناك.

إلا أن القوات البريطانية كشفت أمر القسام، فتحصن هو وبعض أتباعه بقرية نزلة الشيخ زيد، فلحقت القوات البريطانية بهم وطوقتهم وقطعت الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنه رفض واشتبك مع تلك القوات، وقتل منها خمسة عشر جندياً، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، وانتهت المعركة بمقتل القسام وثلاثة من رفاقه، وجُرح وأُسر آخرون. كان لمقتل القسَّام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، والتي كانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك.

ولد محمد عز الدين القسام في بلدة جبلة عام 1300هـ الموافق 1883م، واشتهر باسم عز الدين، ولكن اسمه مركب فهو محمد عز الدين، ولذلك ترجم له الزركلي في أعلامه في حرف الميم باسم محمد عز الدين، وهكذا جاء اسمه في رسالة النقد والبيان، وقد جرت عادة الناس في مثل هذا التركيب أن يشهروا الاسم الثاني ويهملوا الاسم الأول.

أما الأب: فهو عبد القادر بن مصطفى بن يوسف بن محمد القسام. وكان الجد مصطفى وشقيقه قد قدما إلى جبلة من العراق، وهما من المُقدَّمين في الطريقة القادرية المنسوبة إلى الإمام عبد القادر الجيلاني، ولهذا كان أنصار الطريقة القادرية في العراق يقدمون إلى جبلة لزيارة أضرحة عبد القادر ووالده مصطفى في جبلة، فكان عز الدين يردع هؤلاء، ويحثهم على الامتناع عن الحج إلى جبلة لهذا الغرض. تزوج عبد القادر القسام بامرأتين: أولاهما من قلعة المرقب، وهي آمنة جَلّول، فأنجب منها: أحمد ومصطفى وكاملاً وشريفاً. وثانيتهما من جبلة، وهي أم عز الدين، حليمة قصاب (أو القصاب)، وقال بعضهم إنها من آل نور الله، ولعل القصاب فخذ من آل نور الله، أو نور الله فخذ من آل القصاب. وأشقاء عز الدين منها: أمين وفخري (أو فخر الدين) وفاطمة (وفي رواية: نبيهة). وكان عز الدين سادس سبعة إخوة وأشقاء، وثاني ثلاثة أشقاء.

كانت أسرة عز الدين القسام تعيش على الكفاف والصبر على الفقر، ولكنّ رصيدها من الذكر الحسن كبير، فهي أسرة متديّنة، ولها حظ من العلم الشرعي، يحبها الناس لما لها من المكانة الدينية، فمنها أقطاب الطريقة القادرية، وكان للطرق الصوفية أنصار كثيرون في ذلك الزمان، وكان آل القسام مشهورين بالعلم والصلاح، يعطون ولا يأخذون، ويكسبون قوتهم من عملهم. ولكنّ المؤرخين اختلفوا في وصف حال عبد القادر القسام، فقالوا: إن عبد القادر القسام كان صاحب الطريقة القادرية، وقالوا: إنه رأس هذه الطريقة، والحقيقة أنه ورث الطريقة عن أبيه، وقد نقل أبوه هذه الطريقة من العراق حيث موطنه الأصلي، وقالوا: إن عبد القادر القسام عُرف بأنه كان حدّاداً، وأنه كان تقياً ورعاً ملمّاً بأصول الدين، وهذا ما جعله إماماً لجامع سوق الحدادين في وسط بلدة جبلة. وقالوا: إنه كان يدير كُتّأباً لتعليم الصبية تلاوة القرآن ومبادئ الكتابة. وقالوا: إنه كان يملك حاكورة يزرعها بمساعدة أولاده. وقالوا: إنه كان يعمل في أرض الأفندي. وقالوا أيضاً: إنه كان يعمل مستنطقاً في جبلة، ويقوم بكتابة أوراق النفوس أيام الدولة العثمانية. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال: أن هذه الأعمال والوظائف مرّ بها القسام ولم يجمع بينها، فاشتغل حداداً في زمن، واشتغل مستنطقاً في زمن آخر، وكان يُعلّم الأولاد القرآن في بعض أوقاته، وكان يصلي بالناس في جامع السوق مختاراً يُقدمه الناس للإمامة إذا حضر.

أما طفولة عز الدين فقد أمضاها في بلدة جبلة، قرأ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة والحساب في الكتاتيب، ودرس مبادئ العلوم الشرعية على والده، وتتلمذ في جبلة في زاوية الإمام الغزالي لشيخين عُرفا بسعة العلم والمعرفة في اللغة والتفسير والحديث والفقه، وهما الشيخ سليم طيارة البيروتي الأصل، والشيخ أحمد الأروادي، ولما آنس منه أبوه رغبة في العلم أرسله إلى الأزهر. وبعد عودته إلى جبلة اقترن بالسيدة أمينة نعنوع من جبلة، فأنجب منها ولداً ذكراً سماه محمد، وثلاث بنات هنّ: عائشة وميمنة وخديجة. وقد وُلد ابنه محمد في فلسطين، حيث كان عمره حين وفاة والده سبع سنوات، وبلغت ميمنة درجة عالية من الثقافة في حياة والدها.

رحلته إلى الأزهر
كان طلبة العلم يرتحلون في طلب العلم بعد أن تنفد المناهل العلمية في قريتهم ومحيطهم، وفي مطلع القرن الرابع عشر الهجري (أواخر القرن التاسع عشر الميلادي) لم يكن في جبلة إلا الكتاتيب التي تعلم أصول القراءة والكتابة وتلاوة القرآن وحفظه، ولم تكن قرى الساحل السوري ومدنه أوفر حظاً من جبلة، ولم تعد حلقات الدرس في الجامع الأموي بدمشق في المستوى الذي يستحق الرحيل إليه، فلم يبق إلا الجامع الأزهر في القاهرة، فارتحل إليه عز الدين القسام عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، سنة 1314هـ الموافق 1896م.


الجامع الأزهر سنة 1906م، وهي السنة التي تخرج فيها عز الدين القسام منه
أما طريقه إلى الجامع الأزهر فقد جاءت فيه ثلاث روايات: الأولى: إنه ركب قارب صيد من جزيرة أرواد إلى الإسكندرية، وانتقل من الإسكندرية إلى القاهرة براً. والثانية: إنه غادر متوجهاً إلى القاهرة، وكان يرافقه أخوه فخر الدين وعز الدين التنوخي ورضا مسيلماني ومصطفى مسيلماني وذيب البيرص وناجي أديب (ابن خالة عز الدين) ومنح غلاونجي. والثالثة: إنه ذهب مع أبيه عام 1896م إلى جزيرة أرواد القريبة ليسافر على أحد قوارب الصيد إلى الإسكندرية، فسافر عز الدين وابن خالته ناجي أديب وبرفقتهم أخوه فخر الدين وعز الدين التنوخي وبعض طلاب العلم. وتجتمع هذه الرواية مع الرواية الأولى في أنه سافر عن طريق جزيرة أرواد بقارب صيد، وتجتمع الثانية مع الثالثة في إثبات رفاق في الرحلة من أرواد إلى مصر.

هناك اتفاق بين الرواة على أن عز الدين القسام ارتحل إلى الأزهر عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وهناك اختلاف في المدة التي أمضاها في الدراسة، فمنهم من قال: إنها ثماني سنوات، ومنهم من قال: إنها عشر سنوات، وليس هناك إحصاء يبين المشايخ الذين تتلمذ عليهم القسام، ولا دراسة حول المنهج الدراسي والعلوم التي درسها، أو العلوم التي كان يميل إليها وتبحّر في دراستها. ومن المؤكد أن القسام لم يشهد نظام مراحل الدراسة، لأن تقسيم الدراسة الأزهرية إلى مراحل دراسية كان في سنة 1911م أي بعد مغادرة القسام الأزهر، وكانت الدراسة قبل هذا التاريخ تسير على طريقة الحلقات، دون نظام للقبول والامتحانات والشهادات، ودون التمييز بين مختلف المراحل الدراسية، ودون تحديد للمناهج. وبهذا نستطيع أن نقرر أن عز الدين القسام نال شهادة الأزهر العالية دون أن يمر بالمراحل الدراسية: الابتدائية فالثانوية، بل اعتمدت دراسته على الجهد الحر في الدراسة، وكان الانتقال من منزلة إلى أخرى بمقدار ما يستوعب من العلوم التي تؤهله للارتقاء إلى مصافّ العلماء. وكانت العلوم الشرعية (الفقه والتفسير والحديث والأصول) والمواد اللغوية (النحو والبلاغة) هي مدار الدراسة الأزهرية.

وقد روى عز الدين التنوخي زميل عز الدين القسام أن المال نفد منهما وهما في مصر يدرسان في الأزهر، فاقترح القسامُ أن يعدّ التنوخي الحلوى (الهريسة أو النمورة) وأن يقوما ببيعها، ليوفرا من ربحها حاجاتهما، ويستغنيا عن سؤال ذوي اليسار من رفاقهما، فاستفظع التنوخي الأمر وقال: «ولكني أخجل ولا أستطيع المناداة»، فأجابه القسام: «أنا أصيح على بضاعتنا»، وبهذه الوسيلة تمكن الاثنان من مواصلة الدراسة. وذات يوم جاء والد التنوخي لزيارته في القاهرة، وقبل دخوله الأزهر وجد ابنه إلى جوار القسام خلف صينية الهريسة، فسأل: «ما هذا؟» فأجابه ابنه محاولاً رد التهمة عن نفسه: «عز الدين علمني، وهو صاحب الفكرة»، فقال له: «حقاً لقد علمك الحياة»، وفي رواية أخرى: «لقد علمك الاعتماد على النفس، وكسب الرزق الحلال الطيب، وحفظ ماء الوجه من ذل السؤال».

العودة إلى جبلة
تخرّج عز الدين القسام من الأزهر سنة 1906م أو سنة 1909م، وعاد إلى أهله بعد أن أمضى عشر سنوات في جوار الأزهر، نال في نهايتها الإجازة العلمية الدالة على تضلعه في العلوم الإسلامية، ويظهر من نهجه الحياتي المستقبلي أنه لم يكن جمّاعةً حافظاً فقط، وإنما كان فقيهاً في كل ما جمع من العلوم والمعارف. وجعل عز الدين يُدرّس في جامع إبراهيم بن أدهم التفسير والحديث، ويلقي الخطب حاضّاً على التمسك بشعائر الإسلام والأخلاق الإسلامية.

كان المجتمع الريفي في ذلك الوقت ينقسم إلى طبقتين: طبقة الأفندية، وطبقة الفلاحين. أما طبقة الأفندية فقد امتلكت ثلاثة أرباع الأرض، وأما طبقة الفلاحين فإنهم كانوا يعملون في الأرض التي ورثوها عن أجدادهم بما يسدّ جوعهم، وتذهب أكثر خيراتها إلى الأفندية، وقد حرص عبد القادر القسام أن يصحب ابنه عز الدين إلى قصر الأفندي ديب الذي تعمل أسرة القسام في أرضه للسلام عليه وإعلامه بالعودة، ولكن عز الدين رأى في هذا الأسلوب عكساً للسنة، فالمقيم هو الذي يغشى العائد من سفره ويسلم عليه، وهذه هي سنة المسلمين وعرف الناس، ولذلك رفض الابن نصيحة أبيه، لأنه كان يريد أن يُجنّب نفسه وأباه المذلة، وأن يُصلح العُرف الخاطئ الذي سنّه الظالمون. وقد ضاق الأفندية ذرعاً بوجود عز الدين في هذا الريف الغافي على الظلم، لأنه أخذ ينبّه الغافلين ويرشد الضالين، فقد روى عبد الوهاب زيتون الجَبَلي «أن القوى الإقطاعية من أفندية الساحل السوري قد تألبت عليه، وأرادت نفيه إلى إزمير التركية للتخلص من صوته الجريء».

وبعد أمد قصير من عودته إلى الأهل جدّد العزم على الرحلة، فتوجّه إلى إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، وذلك ليطّلع على الأساليب المتّبعة في الدروس المسجدية. ولم يطل مقام القسام في البلاد التركية، لأنه شاهد في القرى والمدن التي زارها من الجهل ما روّعه، ورأى أن الجهل هو سبب كل تخلف وفساد، فعاد إلى بلدته جبلة وهو عازم على البداية من أول الطريق، وقرر أن يتولى تعليم الأطفال في الصباح، وتعليم الكبار في المساء، ووظف كل طاقته وإمكاناته في التعليم. ولتحقيق هذا الهدف فتح مدرسة في جبلة سنة 1912م درّس فيها الأطفال واليافعين نهاراً والرجال الكبار مساءً، بعد أن كان مدرساً في مدينتي بانياس واللاذقية، كما درّس الحديث وتفسير القرآن الكريم في جامع إبراهيم بن أدهم بجبلة، ثم عُيّن موظفاً في شعبة التجنيد بجبلة، فكان بعد فراغه من عمله يعقد الحلقات الدرسية في مساجد البلد.

وعندما صار خطيباً في جامع المنصوري في وسط البلدة كان المصلون يتوافدون إلى المسجد من أحياء البلدة القريبة والبعيدة ومن القرى المجاورة، «كانوا يتوافدون لسماع هذا النمط الجديد من خطب الجمعة التي تهز المشاعر، وتعالج المشكلات اليومية، وتتناول هموم المسلمين، وتقدّم لهم الإسلام غضاً طرياً بأسلوب سهل يفهمونه»، وكان الخطباء قد تعودوا أن يُسمعوا المصلين في كل خطبة كلمات الإطراء والحمد للأفندية والآغوات، أما عز الدين القسام فقد كسر العرف عندما اعتلى منبر جامع المنصوري فقال:

««إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» كونوا أعزة كرماء «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» ولا إيمان لمن رضي بالخنوع، واستكان للظلم، واستعذب العبودية للبشر.»
وكان يدعو المصلين إلى محاربة الفقر والبؤس بالعمل الدؤوب واستنباط خيرات الأرض، ويدعو الناس إلى التعاون والمحبة والإيثار. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

محمد عز الدين بن عبد القادر القسام (1300هـ/1883م - 1354هـ/1935م) الشهير باسم عز الدين القسام، عالم مسلم، وداعية، ومجاهد، وقائد، ولد في بلدة جَبَلة من أعمال اللاذقية سنة 1883م، وتربى في أسرة متديّنة ومعروفة باهتمامها بالعلوم الشرعية، ثم ارتحل إلى الجامع الأزهر بالقاهرة سنة 1896م عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وتخرّج منه سنة 1906م، وعاد إلى بلده جبلة، حيث عمل مدرساً وخطيباً في جامع إبراهيم بن أدهم.

احتل الفرنسيون الساحل السوري في ختام الحرب العالمية الأولى سنة 1918م، فثار القسام في جماعة من تلاميذه ومريديه، وطارده الفرنسيون، فقصد دمشق إبان الحكم الفيصلي، ثم غادرها بعد استيلاء الفرنسيين عليها سنة 1920م، فأقام في حيفا بفلسطين، وتولى فيها إمامة جامع الاستقلال وخطابته، ورياسة جمعية الشبان المسلمين. واستطاع القسام في حيفا تكوين جماعة سرية عُرفت باسم العُصبة القسّامية، وفي عام 1935م شددت السلطات البريطانية الرقابة على تحركات القسام في حيفا، فقرر الانتقال إلى الريف حيث يعرفه أهله منذ أن كان مأذوناً شرعياً وخطيباً يجوب القرى ويحرض ضد الانتداب البريطاني، فأقام في قضاء جنين ليبدأ عملياته المسلحة من هناك.

 إلا أن القوات البريطانية كشفت أمر القسام، فتحصن هو وبعض أتباعه بقرية نزلة الشيخ زيد، فلحقت القوات البريطانية بهم وطوقتهم وقطعت الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنه رفض واشتبك مع تلك القوات، وقتل منها خمسة عشر جندياً، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، وانتهت المعركة بمقتل القسام وثلاثة من رفاقه، وجُرح وأُسر آخرون. كان لمقتل القسَّام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، والتي كانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك.

ولد محمد عز الدين القسام في بلدة جبلة عام 1300هـ الموافق 1883م، واشتهر باسم عز الدين، ولكن اسمه مركب فهو محمد عز الدين، ولذلك ترجم له الزركلي في أعلامه في حرف الميم باسم محمد عز الدين، وهكذا جاء اسمه في رسالة النقد والبيان، وقد جرت عادة الناس في مثل هذا التركيب أن يشهروا الاسم الثاني ويهملوا الاسم الأول.

أما الأب: فهو عبد القادر بن مصطفى بن يوسف بن محمد القسام. وكان الجد مصطفى وشقيقه قد قدما إلى جبلة من العراق، وهما من المُقدَّمين في الطريقة القادرية المنسوبة إلى الإمام عبد القادر الجيلاني، ولهذا كان أنصار الطريقة القادرية في العراق يقدمون إلى جبلة لزيارة أضرحة عبد القادر ووالده مصطفى في جبلة، فكان عز الدين يردع هؤلاء، ويحثهم على الامتناع عن الحج إلى جبلة لهذا الغرض. تزوج عبد القادر القسام بامرأتين: أولاهما من قلعة المرقب، وهي آمنة جَلّول، فأنجب منها: أحمد ومصطفى وكاملاً وشريفاً. وثانيتهما من جبلة، وهي أم عز الدين، حليمة قصاب (أو القصاب)، وقال بعضهم إنها من آل نور الله، ولعل القصاب فخذ من آل نور الله، أو نور الله فخذ من آل القصاب. وأشقاء عز الدين منها: أمين وفخري (أو فخر الدين) وفاطمة (وفي رواية: نبيهة). وكان عز الدين سادس سبعة إخوة وأشقاء، وثاني ثلاثة أشقاء.

كانت أسرة عز الدين القسام تعيش على الكفاف والصبر على الفقر، ولكنّ رصيدها من الذكر الحسن كبير، فهي أسرة متديّنة، ولها حظ من العلم الشرعي، يحبها الناس لما لها من المكانة الدينية، فمنها أقطاب الطريقة القادرية، وكان للطرق الصوفية أنصار كثيرون في ذلك الزمان، وكان آل القسام مشهورين بالعلم والصلاح، يعطون ولا يأخذون، ويكسبون قوتهم من عملهم. ولكنّ المؤرخين اختلفوا في وصف حال عبد القادر القسام، فقالوا: إن عبد القادر القسام كان صاحب الطريقة القادرية، وقالوا: إنه رأس هذه الطريقة، والحقيقة أنه ورث الطريقة عن أبيه، وقد نقل أبوه هذه الطريقة من العراق حيث موطنه الأصلي، وقالوا: إن عبد القادر القسام عُرف بأنه كان حدّاداً، وأنه كان تقياً ورعاً ملمّاً بأصول الدين، وهذا ما جعله إماماً لجامع سوق الحدادين في وسط بلدة جبلة. وقالوا: إنه كان يدير كُتّأباً لتعليم الصبية تلاوة القرآن ومبادئ الكتابة. وقالوا: إنه كان يملك حاكورة يزرعها بمساعدة أولاده. وقالوا: إنه كان يعمل في أرض الأفندي. وقالوا أيضاً: إنه كان يعمل مستنطقاً في جبلة، ويقوم بكتابة أوراق النفوس أيام الدولة العثمانية. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال: أن هذه الأعمال والوظائف مرّ بها القسام ولم يجمع بينها، فاشتغل حداداً في زمن، واشتغل مستنطقاً في زمن آخر، وكان يُعلّم الأولاد القرآن في بعض أوقاته، وكان يصلي بالناس في جامع السوق مختاراً يُقدمه الناس للإمامة إذا حضر.

أما طفولة عز الدين فقد أمضاها في بلدة جبلة، قرأ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة والحساب في الكتاتيب، ودرس مبادئ العلوم الشرعية على والده، وتتلمذ في جبلة في زاوية الإمام الغزالي لشيخين عُرفا بسعة العلم والمعرفة في اللغة والتفسير والحديث والفقه، وهما الشيخ سليم طيارة البيروتي الأصل، والشيخ أحمد الأروادي، ولما آنس منه أبوه رغبة في العلم أرسله إلى الأزهر. وبعد عودته إلى جبلة اقترن بالسيدة أمينة نعنوع من جبلة، فأنجب منها ولداً ذكراً سماه محمد، وثلاث بنات هنّ: عائشة وميمنة وخديجة. وقد وُلد ابنه محمد في فلسطين، حيث كان عمره حين وفاة والده سبع سنوات، وبلغت ميمنة درجة عالية من الثقافة في حياة والدها.

رحلته إلى الأزهر
كان طلبة العلم يرتحلون في طلب العلم بعد أن تنفد المناهل العلمية في قريتهم ومحيطهم، وفي مطلع القرن الرابع عشر الهجري (أواخر القرن التاسع عشر الميلادي) لم يكن في جبلة إلا الكتاتيب التي تعلم أصول القراءة والكتابة وتلاوة القرآن وحفظه، ولم تكن قرى الساحل السوري ومدنه أوفر حظاً من جبلة، ولم تعد حلقات الدرس في الجامع الأموي بدمشق في المستوى الذي يستحق الرحيل إليه، فلم يبق إلا الجامع الأزهر في القاهرة، فارتحل إليه عز الدين القسام عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، سنة 1314هـ الموافق 1896م.


الجامع الأزهر سنة 1906م، وهي السنة التي تخرج فيها عز الدين القسام منه
أما طريقه إلى الجامع الأزهر فقد جاءت فيه ثلاث روايات: الأولى: إنه ركب قارب صيد من جزيرة أرواد إلى الإسكندرية، وانتقل من الإسكندرية إلى القاهرة براً. والثانية: إنه غادر متوجهاً إلى القاهرة، وكان يرافقه أخوه فخر الدين وعز الدين التنوخي ورضا مسيلماني ومصطفى مسيلماني وذيب البيرص وناجي أديب (ابن خالة عز الدين) ومنح غلاونجي. والثالثة: إنه ذهب مع أبيه عام 1896م إلى جزيرة أرواد القريبة ليسافر على أحد قوارب الصيد إلى الإسكندرية، فسافر عز الدين وابن خالته ناجي أديب وبرفقتهم أخوه فخر الدين وعز الدين التنوخي وبعض طلاب العلم. وتجتمع هذه الرواية مع الرواية الأولى في أنه سافر عن طريق جزيرة أرواد بقارب صيد، وتجتمع الثانية مع الثالثة في إثبات رفاق في الرحلة من أرواد إلى مصر.

هناك اتفاق بين الرواة على أن عز الدين القسام ارتحل إلى الأزهر عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وهناك اختلاف في المدة التي أمضاها في الدراسة، فمنهم من قال: إنها ثماني سنوات، ومنهم من قال: إنها عشر سنوات، وليس هناك إحصاء يبين المشايخ الذين تتلمذ عليهم القسام، ولا دراسة حول المنهج الدراسي والعلوم التي درسها، أو العلوم التي كان يميل إليها وتبحّر في دراستها. ومن المؤكد أن القسام لم يشهد نظام مراحل الدراسة، لأن تقسيم الدراسة الأزهرية إلى مراحل دراسية كان في سنة 1911م أي بعد مغادرة القسام الأزهر، وكانت الدراسة قبل هذا التاريخ تسير على طريقة الحلقات، دون نظام للقبول والامتحانات والشهادات، ودون التمييز بين مختلف المراحل الدراسية، ودون تحديد للمناهج. وبهذا نستطيع أن نقرر أن عز الدين القسام نال شهادة الأزهر العالية دون أن يمر بالمراحل الدراسية: الابتدائية فالثانوية، بل اعتمدت دراسته على الجهد الحر في الدراسة، وكان الانتقال من منزلة إلى أخرى بمقدار ما يستوعب من العلوم التي تؤهله للارتقاء إلى مصافّ العلماء. وكانت العلوم الشرعية (الفقه والتفسير والحديث والأصول) والمواد اللغوية (النحو والبلاغة) هي مدار الدراسة الأزهرية.

وقد روى عز الدين التنوخي زميل عز الدين القسام أن المال نفد منهما وهما في مصر يدرسان في الأزهر، فاقترح القسامُ أن يعدّ التنوخي الحلوى (الهريسة أو النمورة) وأن يقوما ببيعها، ليوفرا من ربحها حاجاتهما، ويستغنيا عن سؤال ذوي اليسار من رفاقهما، فاستفظع التنوخي الأمر وقال: «ولكني أخجل ولا أستطيع المناداة»، فأجابه القسام: «أنا أصيح على بضاعتنا»، وبهذه الوسيلة تمكن الاثنان من مواصلة الدراسة. وذات يوم جاء والد التنوخي لزيارته في القاهرة، وقبل دخوله الأزهر وجد ابنه إلى جوار القسام خلف صينية الهريسة، فسأل: «ما هذا؟» فأجابه ابنه محاولاً رد التهمة عن نفسه: «عز الدين علمني، وهو صاحب الفكرة»، فقال له: «حقاً لقد علمك الحياة»، وفي رواية أخرى: «لقد علمك الاعتماد على النفس، وكسب الرزق الحلال الطيب، وحفظ ماء الوجه من ذل السؤال».

العودة إلى جبلة
تخرّج عز الدين القسام من الأزهر سنة 1906م أو سنة 1909م، وعاد إلى أهله بعد أن أمضى عشر سنوات في جوار الأزهر، نال في نهايتها الإجازة العلمية الدالة على تضلعه في العلوم الإسلامية، ويظهر من نهجه الحياتي المستقبلي أنه لم يكن جمّاعةً حافظاً فقط، وإنما كان فقيهاً في كل ما جمع من العلوم والمعارف. وجعل عز الدين يُدرّس في جامع إبراهيم بن أدهم التفسير والحديث، ويلقي الخطب حاضّاً على التمسك بشعائر الإسلام والأخلاق الإسلامية.

كان المجتمع الريفي في ذلك الوقت ينقسم إلى طبقتين: طبقة الأفندية، وطبقة الفلاحين. أما طبقة الأفندية فقد امتلكت ثلاثة أرباع الأرض، وأما طبقة الفلاحين فإنهم كانوا يعملون في الأرض التي ورثوها عن أجدادهم بما يسدّ جوعهم، وتذهب أكثر خيراتها إلى الأفندية، وقد حرص عبد القادر القسام أن يصحب ابنه عز الدين إلى قصر الأفندي ديب الذي تعمل أسرة القسام في أرضه للسلام عليه وإعلامه بالعودة، ولكن عز الدين رأى في هذا الأسلوب عكساً للسنة، فالمقيم هو الذي يغشى العائد من سفره ويسلم عليه، وهذه هي سنة المسلمين وعرف الناس، ولذلك رفض الابن نصيحة أبيه، لأنه كان يريد أن يُجنّب نفسه وأباه المذلة، وأن يُصلح العُرف الخاطئ الذي سنّه الظالمون. وقد ضاق الأفندية ذرعاً بوجود عز الدين في هذا الريف الغافي على الظلم، لأنه أخذ ينبّه الغافلين ويرشد الضالين، فقد روى عبد الوهاب زيتون الجَبَلي «أن القوى الإقطاعية من أفندية الساحل السوري قد تألبت عليه، وأرادت نفيه إلى إزمير التركية للتخلص من صوته الجريء».

وبعد أمد قصير من عودته إلى الأهل جدّد العزم على الرحلة، فتوجّه إلى إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، وذلك ليطّلع على الأساليب المتّبعة في الدروس المسجدية. ولم يطل مقام القسام في البلاد التركية، لأنه شاهد في القرى والمدن التي زارها من الجهل ما روّعه، ورأى أن الجهل هو سبب كل تخلف وفساد، فعاد إلى بلدته جبلة وهو عازم على البداية من أول الطريق، وقرر أن يتولى تعليم الأطفال في الصباح، وتعليم الكبار في المساء، ووظف كل طاقته وإمكاناته في التعليم. ولتحقيق هذا الهدف فتح مدرسة في جبلة سنة 1912م درّس فيها الأطفال واليافعين نهاراً والرجال الكبار مساءً، بعد أن كان مدرساً في مدينتي بانياس واللاذقية، كما درّس الحديث وتفسير القرآن الكريم في جامع إبراهيم بن أدهم بجبلة، ثم عُيّن موظفاً في شعبة التجنيد بجبلة، فكان بعد فراغه من عمله يعقد الحلقات الدرسية في مساجد البلد.

وعندما صار خطيباً في جامع المنصوري في وسط البلدة كان المصلون يتوافدون إلى المسجد من أحياء البلدة القريبة والبعيدة ومن القرى المجاورة، «كانوا يتوافدون لسماع هذا النمط الجديد من خطب الجمعة التي تهز المشاعر، وتعالج المشكلات اليومية، وتتناول هموم المسلمين، وتقدّم لهم الإسلام غضاً طرياً بأسلوب سهل يفهمونه»، وكان الخطباء قد تعودوا أن يُسمعوا المصلين في كل خطبة كلمات الإطراء والحمد للأفندية والآغوات، أما عز الدين القسام فقد كسر العرف عندما اعتلى منبر جامع المنصوري فقال:

««إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» كونوا أعزة كرماء «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» ولا إيمان لمن رضي بالخنوع، واستكان للظلم، واستعذب العبودية للبشر.»
وكان يدعو المصلين إلى محاربة الفقر والبؤس بالعمل الدؤوب واستنباط خيرات الأرض، ويدعو الناس إلى التعاون والمحبة والإيثار.

عز الدين القسام شيخ المجاهدين فى فلسطين من التراجم والأعلام تحميل مباشر :

 



سنة النشر : 2000م / 1421هـ .
حجم الكتاب عند التحميل : 4.9 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة عز الدين القسام شيخ المجاهدين فى فلسطين

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
محمد محمد حسن شراب - Mohamed Mohamed Hassan Sharab

كتب محمد محمد حسن شراب ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الإمام الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب عالم الحجاز والشام ❝ ❞ عز الدين القسام شيخ المجاهدين فى فلسطين ❝ ❞ أبو عبيدة عامر بن الجراح أمين الأمة وفاتح الديار الشامية ❝ ❞ تميم بن أوس الداري رضي الله عنه راهب أهل عصره ❝ ❞ تميم بن أوس الداري رضي الله عنه راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين ❝ الناشرين : ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❱. المزيد..

كتب محمد محمد حسن شراب