كتاب الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتناالمكتبة التجريبية

كتاب الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا

يقول القرضاوي: فليس أبغض إلى نفسى من استعمال الكلمات التي تلوكها ألسنة الماركسين وتبتذلها أقلامهم، وتروج في صحفهم وكتبهم ونشراتهم، ومن ذلك كلمة «الحتمية» التي تكاد تكون عنوانًا لمذهبهم، وعلمًا على اتجاههم الذي قد يسمى «الحتمية التاريخية». ولكنى استعملت هذه الكلمة «حتمية الحل الإسلامي» من باب «المشاكلة» كما يقول علماء «البديع» في البلاغة العربية، على نحو ما جاء في القرآن من مثل قوله تعالى: {وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُ} [الأنفال: 30] ... {إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ} [النساء: 142]. {قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ 14 ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ} [البقرة: 14، 15] ، فوصف الله سبحانه بالمكر والخداع والاستهزاء لم يكن إلا مشاكلة ومقابلة لوصف المنافقين بهذه الأوصاف. وكذلك استعملت هنا لفظ «الحتمية» مشاكلة ومقابلة للذين ينادون في عالمنا العربي بما سموه «حتمية الحل الاشتراكي» ، ولا أعني بحتمية شيء ما أنه سيقع لا محالة، فإن هذا تهجم سخيف على المجهول، لا على الإيمان فحسب، بل على العلم أيضًا، فعلم القرن العشرين يعرف «الاحتمالات» أكثر مما يعرف «الحتميات»، حتى نتائج العلوم الطبيعية نفسها غدت في نظر العلم اليوم تقريبية لا يقينية، وهذا ما اعترف به أقطاب العلم أنفسهم. إن قولنا بحتمية أمر ما، لا يعني الإخبار بما سيقع حتمًا، بل يجب أن يقع... أو بما تدل الظواهر وطبيعة الأشياء والأحداث أنه ضروري الوقوع، وهذا هو الذي نملكه باعتبارنا بشر نحترم أنفسنا وعقولنا، والذين يعتنقون مبدأ «الحتمية التاريخية» وينادون بحتمية «التطور» لا ينتظرون حتى يأتى التطور، بل يعملون ويكافحون، ويتخذون كل الوسائل والأساليب - مشروعة وغير مشروعة - للوصول إلى مآربهم، فلماذا لا يربحون أنفسهم من مشقة العمل حتى يوافيهم التطور المحتوم إن كانوا صادقين؟ فأنا - وإن استعملت لفظ «الحتمية» - لا أريد منه ما يريده الماركسيون من الحتمية التاريخية، فالحتمية بهذا التفسيرخطأ يخالف الصواب من ناحية، ووهم يخالف الواقع من ناحية أخرى، وقد بينت الأحداث التي وقعت بعد ماركس؛ أن «ماركس» قد أخطأ الحساب، وأن حتمياته لم تتحقق كما ظن، بل وقع ما يخالفها. كما بين ذلك الدارسون للماركسية. إنما أردت من الحتمية أن كل الظروف والملابسات والوقائع - في بلادنا العربية خاصة، وفي عالمنا الإسلامي عامة، لمن درسها علمية موضوعية - تحتم السير إلى الحل الإسلامي، بعد أن فشلت كل الحلول المستوردة وتخبطت كل الأنظمة المصطنعة، وباءت بالعجز والخيبة كل المذاهب والاتجاهات، ليبرالية واشتراكية، وأصبح تغييرها أمرًا لا مفر منه. وهذا ما أحست به جماهيرنا العربية المؤمنة، ونادت به، بعد نكبة يونية حزيران (1967): أن لا حل ولا علاج إلا بالعودة إلى الإسلام. إن أهدافنا السياسية الكبرى -في العالم العربي كمثال- لم تتحقق، ولم تقترب منها بل زدنا عنها بعدًا، فالآمل في الوحدة العربية قد ضعف نتيجة للخلاف العقائدي بين المحافظين من دعاة اليمين، والثوريين من دعاة اليسار، وهو خلاف لا يرجى زواله إلا بزوال هذه الأفكار الدخيلة نفسها، من يمين ويسار، ومعذرة للقارئ من استعمال هذه التسميات الدخيلة التي لم تنبت في تربتنا، بل إن اليساريين الثوريين من العرب الذين ينتمون إلى حزب عقائدي سياسي واحد، لم يستطيعوا أن يتحدوا فيما بينهم، بعد وثوبهم على الحكم في بلدين متجاورين، رغم وحدة الشعارات واللافتات، التي ثبت عجزها أمام اختلاف الولاءات والارتباطات، واختلاف المطامع والشهوات. وقضية فلسطين لم تحل ولم تقترب من الحل، بل زادت تعقيدًا، نتيجة للحرب التى قادها الثوريون العرب في 5 يونية حزيران (1967)، وكانت عاقبتها ما نعلم: نكبة أدهى وأمر من النكبة الأولى (1948)، وبعد تسعة عشر عامًا منها، مضت في التأهب والاستعداد ليوم الثأر ويوم التحرير، فلما جاء اليوم الموعود، لم نجد وراء الأكمة شيئًا، ولم نجد تحت القبة «شيخًا» كما يقولون، وصدق على العرب المثل القائل: «أطال الغيبة وأتانا بالخيبة»! وهكذا فشلت الثورية اليسارية العربية في سنة 1967، كما فشلت من قبلها الليبرالية اليمينية العربية في سنة (1948). وقضية الحرية السياسة في العالم العربي في أزمة آخذة بالخناق، سواء في تلك البلاد التي تتخذ شكل النظام الديمقراطي الدستوري، والبلاد التي تتخذ النظام الاشتراكي الثوري، وإن كانت الثانية أشد ضغطًا على الحريات وأكثر فتكًا بها ووأدًا لها، بناء على فلسفة الاشتراكية وتراثها العالمي في سلب الحرية السياسية باسم الحرية الاجتماعية، ويغير ذلك من المبررات والأسماء التي لا تعجز عن اصطناعها! وكذلك قضية الرخاء والازدهار الاقتصادي، لم تتم على النحو الذي كان مرجوًا منها، فلا تزال الطبقات الفقيرة في مجتمعنا، تشكو العوز والفاقة وضيق العيش وغلاء الأسعار، وعدم تكافؤ الفرص، وكل الذي حدث في بعض البلاد، أن زالت طبقة مترفة قديمة وورثتها طبقة جديدة مثلها أو أسوأ منها، وهكذا لم تشيع الجماهير من جوع، ولم تأمن من خوف، أما أمراضنا الأخرى من بلبلة الفكر، وسوء الأخلاق، وفساد الذمم، وضعف الوازع، واضطراب الأسرة، وتفكك المجتمع، وما شابه ذلك، فحدث عنه ولا حرج. كل هذه النتائج تحتم علينا أن نسير إلى الإسلام لنحل به عقد حياتنا، ونعالج به مشكلاتنا، ونحقق في ظله أهدافنا الكبرى، وكفى ما ضاع من عمر أمتنا في التجارب والتخبطات، فإذا كنا «عربًا» فهذا الحل هو أليق الحلول بكرامتنا القومية، لأنه الحل النابع من عقائدنا وتراثنا وأرضنا، وإذا كنا «مسلمين» فهذا الحل هو مقتضى إسلامنا، وموجب إيماننا، ولا يتحقق لنا إسلام ولا إيمان بغير العودة إليه، والإصرار عليه؛ فوراءه فلاح الأخرة والأولى.
يوسف القرضاوي - يوسف عبد الله القرضاوي (9 سبتمبر 1926): عالم مصري مسلم يحمل الجنسية القطرية، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقا. ولد في قرية صفط تراب مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في مصر. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ❝ ❞ الصبر في القرآن ❝ ❞ جيل النصر المنشود ❝ ❞ الإسلام والعلمانية وجها لوجه ❝ ❞ المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ❝ ❞ الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ❝ ❞ دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية وشروط نجاحها ❝ ❞ ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق ❝ ❞ عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية ❝ الناشرين : ❞ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ❝ ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❞ مؤسسة الرسالة ❝ ❞ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ❝ ❞ الأزهر الشريف ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ مكتبة وهبة ❝ ❞ دار الصحوة للنشر ❝ ❞ مركز بحوث السنة والسيره -قطر ❝ ❞ مكتبة البنين ❝ ❱
من فكر إسلامي الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.

وصف الكتاب : يقول القرضاوي: فليس أبغض إلى نفسى من استعمال الكلمات التي تلوكها ألسنة الماركسين وتبتذلها أقلامهم، وتروج في صحفهم وكتبهم ونشراتهم، ومن ذلك كلمة «الحتمية» التي تكاد تكون عنوانًا لمذهبهم، وعلمًا على اتجاههم الذي قد يسمى «الحتمية التاريخية».

ولكنى استعملت هذه الكلمة «حتمية الحل الإسلامي» من باب «المشاكلة» كما يقول علماء «البديع» في البلاغة العربية، على نحو ما جاء في القرآن من مثل قوله تعالى: {وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُ} [الأنفال: 30] ... {إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ} [النساء: 142]. {قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ 14 ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ} [البقرة: 14، 15] ، فوصف الله سبحانه بالمكر والخداع والاستهزاء لم يكن إلا مشاكلة ومقابلة لوصف المنافقين بهذه الأوصاف.

وكذلك استعملت هنا لفظ «الحتمية» مشاكلة ومقابلة للذين ينادون في عالمنا العربي بما سموه «حتمية الحل الاشتراكي» ، ولا أعني بحتمية شيء ما أنه سيقع لا محالة، فإن هذا تهجم سخيف على المجهول، لا على الإيمان فحسب، بل على العلم أيضًا، فعلم القرن العشرين يعرف «الاحتمالات» أكثر مما يعرف «الحتميات»، حتى نتائج العلوم الطبيعية نفسها غدت في نظر العلم اليوم تقريبية لا يقينية، وهذا ما اعترف به أقطاب العلم أنفسهم.

إن قولنا بحتمية أمر ما، لا يعني الإخبار بما سيقع حتمًا، بل يجب أن يقع... أو بما تدل الظواهر وطبيعة الأشياء والأحداث أنه ضروري الوقوع، وهذا هو الذي نملكه باعتبارنا بشر نحترم أنفسنا وعقولنا، والذين يعتنقون مبدأ «الحتمية التاريخية» وينادون بحتمية «التطور» لا ينتظرون حتى يأتى التطور، بل يعملون ويكافحون، ويتخذون كل الوسائل والأساليب - مشروعة وغير مشروعة - للوصول إلى مآربهم، فلماذا لا يربحون أنفسهم من مشقة العمل حتى يوافيهم التطور المحتوم إن كانوا صادقين؟

فأنا - وإن استعملت لفظ «الحتمية» - لا أريد منه ما يريده الماركسيون من الحتمية التاريخية، فالحتمية بهذا التفسيرخطأ يخالف الصواب من ناحية، ووهم يخالف الواقع من ناحية أخرى، وقد بينت الأحداث التي وقعت بعد ماركس؛ أن «ماركس» قد أخطأ الحساب، وأن حتمياته لم تتحقق كما ظن، بل وقع ما يخالفها. كما بين ذلك الدارسون للماركسية.

إنما أردت من الحتمية أن كل الظروف والملابسات والوقائع - في بلادنا العربية خاصة، وفي عالمنا الإسلامي عامة، لمن درسها علمية موضوعية - تحتم السير إلى الحل الإسلامي، بعد أن فشلت كل الحلول المستوردة وتخبطت كل الأنظمة المصطنعة، وباءت بالعجز والخيبة كل المذاهب والاتجاهات، ليبرالية واشتراكية، وأصبح تغييرها أمرًا لا مفر منه.

وهذا ما أحست به جماهيرنا العربية المؤمنة، ونادت به، بعد نكبة يونية حزيران (1967): أن لا حل ولا علاج إلا بالعودة إلى الإسلام. إن أهدافنا السياسية الكبرى -في العالم العربي كمثال- لم تتحقق، ولم تقترب منها بل زدنا عنها بعدًا، فالآمل في الوحدة العربية قد ضعف نتيجة للخلاف العقائدي بين المحافظين من دعاة اليمين، والثوريين من دعاة اليسار، وهو خلاف لا يرجى زواله إلا بزوال هذه الأفكار الدخيلة نفسها، من يمين ويسار، ومعذرة للقارئ من استعمال هذه التسميات الدخيلة التي لم تنبت في تربتنا، بل إن اليساريين الثوريين من العرب الذين ينتمون إلى حزب عقائدي سياسي واحد، لم يستطيعوا أن يتحدوا فيما بينهم، بعد وثوبهم على الحكم في بلدين متجاورين، رغم وحدة الشعارات واللافتات، التي ثبت عجزها أمام اختلاف الولاءات والارتباطات، واختلاف المطامع والشهوات.

وقضية فلسطين لم تحل ولم تقترب من الحل، بل زادت تعقيدًا، نتيجة للحرب التى قادها الثوريون العرب في 5 يونية حزيران (1967)، وكانت عاقبتها ما نعلم: نكبة أدهى وأمر من النكبة الأولى (1948)، وبعد تسعة عشر عامًا منها، مضت في التأهب والاستعداد ليوم الثأر ويوم التحرير، فلما جاء اليوم الموعود، لم نجد وراء الأكمة شيئًا، ولم نجد تحت القبة «شيخًا» كما يقولون، وصدق على العرب المثل القائل: «أطال الغيبة وأتانا بالخيبة»! وهكذا فشلت الثورية اليسارية العربية في سنة 1967، كما فشلت من قبلها الليبرالية اليمينية العربية في سنة (1948).

وقضية الحرية السياسة في العالم العربي في أزمة آخذة بالخناق، سواء في تلك البلاد التي تتخذ شكل النظام الديمقراطي الدستوري، والبلاد التي تتخذ النظام الاشتراكي الثوري، وإن كانت الثانية أشد ضغطًا على الحريات وأكثر فتكًا بها ووأدًا لها، بناء على فلسفة الاشتراكية وتراثها العالمي في سلب الحرية السياسية باسم الحرية الاجتماعية، ويغير ذلك من المبررات والأسماء التي لا تعجز عن اصطناعها!

وكذلك قضية الرخاء والازدهار الاقتصادي، لم تتم على النحو الذي كان مرجوًا منها، فلا تزال الطبقات الفقيرة في مجتمعنا، تشكو العوز والفاقة وضيق العيش وغلاء الأسعار، وعدم تكافؤ الفرص، وكل الذي حدث في بعض البلاد، أن زالت طبقة مترفة قديمة وورثتها طبقة جديدة مثلها أو أسوأ منها، وهكذا لم تشيع الجماهير من جوع، ولم تأمن من خوف، أما أمراضنا الأخرى من بلبلة الفكر، وسوء الأخلاق، وفساد الذمم، وضعف الوازع، واضطراب الأسرة، وتفكك المجتمع، وما شابه ذلك، فحدث عنه ولا حرج.

كل هذه النتائج تحتم علينا أن نسير إلى الإسلام لنحل به عقد حياتنا، ونعالج به مشكلاتنا، ونحقق في ظله أهدافنا الكبرى، وكفى ما ضاع من عمر أمتنا في التجارب والتخبطات، فإذا كنا «عربًا» فهذا الحل هو أليق الحلول بكرامتنا القومية، لأنه الحل النابع من عقائدنا وتراثنا وأرضنا، وإذا كنا «مسلمين» فهذا الحل هو مقتضى إسلامنا، وموجب إيماننا، ولا يتحقق لنا إسلام ولا إيمان بغير العودة إليه، والإصرار عليه؛ فوراءه فلاح الأخرة والأولى.

للكاتب/المؤلف : يوسف القرضاوي .
دار النشر : مؤسسة الرسالة .
سنة النشر : 1971م / 1391هـ .
عدد مرات التحميل : 564 مرّة / مرات.
تم اضافته في : السبت , 1 أكتوبر 2022م.

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

فليس أبغض إلى نفسى من استعمال الكلمات التي تلوكها ألسنة الماركسين وتبتذلها أقلامهم، وتروج في صحفهم وكتبهم ونشراتهم، ومن ذلك كلمة «الحتمية» التي تكاد تكون عنوانًا لمذهبهم، وعلمًا على اتجاههم الذي قد يسمى «الحتمية التاريخية».

ولكنى استعملت هذه الكلمة «حتمية الحل الإسلامي» من باب «المشاكلة» كما يقول علماء «البديع» في البلاغة العربية، على نحو ما جاء في القرآن من مثل قوله تعالى: {وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُ} [الأنفال: 30] ... {إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ} [النساء: 142]. {قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ 14 ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ} [البقرة: 14، 15] ، فوصف الله سبحانه بالمكر والخداع والاستهزاء لم يكن إلا مشاكلة ومقابلة لوصف المنافقين بهذه الأوصاف.

وكذلك استعملت هنا لفظ «الحتمية» مشاكلة ومقابلة للذين ينادون في عالمنا العربي بما سموه «حتمية الحل الاشتراكي» ، ولا أعني بحتمية شيء ما أنه سيقع لا محالة، فإن هذا تهجم سخيف على المجهول، لا على الإيمان فحسب، بل على العلم أيضًا، فعلم القرن العشرين يعرف «الاحتمالات» أكثر مما يعرف «الحتميات»، حتى نتائج العلوم الطبيعية نفسها غدت في نظر العلم اليوم تقريبية لا يقينية، وهذا ما اعترف به أقطاب العلم أنفسهم.

إن قولنا بحتمية أمر ما، لا يعني الإخبار بما سيقع حتمًا، بل يجب أن يقع... أو بما تدل الظواهر وطبيعة الأشياء والأحداث أنه ضروري الوقوع، وهذا هو الذي نملكه باعتبارنا بشر نحترم أنفسنا وعقولنا، والذين يعتنقون مبدأ «الحتمية التاريخية» وينادون بحتمية «التطور» لا ينتظرون حتى يأتى التطور، بل يعملون ويكافحون، ويتخذون كل الوسائل والأساليب - مشروعة وغير مشروعة - للوصول إلى مآربهم، فلماذا لا يربحون أنفسهم من مشقة العمل حتى يوافيهم التطور المحتوم إن كانوا صادقين؟

فأنا - وإن استعملت لفظ «الحتمية» - لا أريد منه ما يريده الماركسيون من الحتمية التاريخية، فالحتمية بهذا التفسيرخطأ يخالف الصواب من ناحية، ووهم يخالف الواقع من ناحية أخرى، وقد بينت الأحداث التي وقعت بعد ماركس؛ أن «ماركس» قد أخطأ الحساب، وأن حتمياته لم تتحقق كما ظن، بل وقع ما يخالفها. كما بين ذلك الدارسون للماركسية.

إنما أردت من الحتمية أن كل الظروف والملابسات والوقائع - في بلادنا العربية خاصة، وفي عالمنا الإسلامي عامة، لمن درسها علمية موضوعية - تحتم السير إلى الحل الإسلامي، بعد أن فشلت كل الحلول المستوردة وتخبطت كل الأنظمة المصطنعة، وباءت بالعجز والخيبة كل المذاهب والاتجاهات، ليبرالية واشتراكية، وأصبح تغييرها أمرًا لا مفر منه.

وهذا ما أحست به جماهيرنا العربية المؤمنة، ونادت به، بعد نكبة يونية حزيران (1967): أن لا حل ولا علاج إلا بالعودة إلى الإسلام. إن أهدافنا السياسية الكبرى -في العالم العربي كمثال- لم تتحقق، ولم تقترب منها بل زدنا عنها بعدًا، فالآمل في الوحدة العربية قد ضعف نتيجة للخلاف العقائدي بين المحافظين من دعاة اليمين، والثوريين من دعاة اليسار، وهو خلاف لا يرجى زواله إلا بزوال هذه الأفكار الدخيلة نفسها، من يمين ويسار، ومعذرة للقارئ من استعمال هذه التسميات الدخيلة التي لم تنبت في تربتنا، بل إن اليساريين الثوريين من العرب الذين ينتمون إلى حزب عقائدي سياسي واحد، لم يستطيعوا أن يتحدوا فيما بينهم، بعد وثوبهم على الحكم في بلدين متجاورين، رغم وحدة الشعارات واللافتات، التي ثبت عجزها أمام اختلاف الولاءات والارتباطات، واختلاف المطامع والشهوات.

وقضية فلسطين لم تحل ولم تقترب من الحل، بل زادت تعقيدًا، نتيجة للحرب التى قادها الثوريون العرب في 5 يونية حزيران (1967)، وكانت عاقبتها ما نعلم: نكبة أدهى وأمر من النكبة الأولى (1948)، وبعد تسعة عشر عامًا منها، مضت في التأهب والاستعداد ليوم الثأر ويوم التحرير، فلما جاء اليوم الموعود، لم نجد وراء الأكمة شيئًا، ولم نجد تحت القبة «شيخًا» كما يقولون، وصدق على العرب المثل القائل: «أطال الغيبة وأتانا بالخيبة»! وهكذا فشلت الثورية اليسارية العربية في سنة 1967، كما فشلت من قبلها الليبرالية اليمينية العربية في سنة (1948).

وقضية الحرية السياسة في العالم العربي في أزمة آخذة بالخناق، سواء في تلك البلاد التي تتخذ شكل النظام الديمقراطي الدستوري، والبلاد التي تتخذ النظام الاشتراكي الثوري، وإن كانت الثانية أشد ضغطًا على الحريات وأكثر فتكًا بها ووأدًا لها، بناء على فلسفة الاشتراكية وتراثها العالمي في سلب الحرية السياسية باسم الحرية الاجتماعية، ويغير ذلك من المبررات والأسماء التي لا تعجز عن اصطناعها!

وكذلك قضية الرخاء والازدهار الاقتصادي، لم تتم على النحو الذي كان مرجوًا منها، فلا تزال الطبقات الفقيرة في مجتمعنا، تشكو العوز والفاقة وضيق العيش وغلاء الأسعار، وعدم تكافؤ الفرص، وكل الذي حدث في بعض البلاد، أن زالت طبقة مترفة قديمة وورثتها طبقة جديدة مثلها أو أسوأ منها، وهكذا لم تشيع الجماهير من جوع، ولم تأمن من خوف، أما أمراضنا الأخرى من بلبلة الفكر، وسوء الأخلاق، وفساد الذمم، وضعف الوازع، واضطراب الأسرة، وتفكك المجتمع، وما شابه ذلك، فحدث عنه ولا حرج.

كل هذه النتائج تحتم علينا أن نسير إلى الإسلام لنحل به عقد حياتنا، ونعالج به مشكلاتنا، ونحقق في ظله أهدافنا الكبرى، وكفى ما ضاع من عمر أمتنا في التجارب والتخبطات، فإذا كنا «عربًا» فهذا الحل هو أليق الحلول بكرامتنا القومية، لأنه الحل النابع من عقائدنا وتراثنا وأرضنا، وإذا كنا «مسلمين» فهذا الحل هو مقتضى إسلامنا، وموجب إيماننا، ولا يتحقق لنا إسلام ولا إيمان بغير العودة إليه، والإصرار عليه؛ فوراءه فلاح الأخرة والأولى.



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا
يوسف القرضاوي
يوسف القرضاوي
Yousef Al Qaradawi
يوسف عبد الله القرضاوي (9 سبتمبر 1926): عالم مصري مسلم يحمل الجنسية القطرية، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقا. ولد في قرية صفط تراب مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في مصر. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ❝ ❞ الصبر في القرآن ❝ ❞ جيل النصر المنشود ❝ ❞ الإسلام والعلمانية وجها لوجه ❝ ❞ المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ❝ ❞ الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ❝ ❞ دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية وشروط نجاحها ❝ ❞ ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق ❝ ❞ عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية ❝ الناشرين : ❞ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ❝ ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❞ مؤسسة الرسالة ❝ ❞ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ❝ ❞ الأزهر الشريف ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ مكتبة وهبة ❝ ❞ دار الصحوة للنشر ❝ ❞ مركز بحوث السنة والسيره -قطر ❝ ❞ مكتبة البنين ❝ ❱.



كتب اخرى في فكر إسلامي

المنطلق في فقه العمل: أخلاق وأحكام البناء والتفوق PDF

قراءة و تحميل كتاب المنطلق في فقه العمل: أخلاق وأحكام البناء والتفوق PDF مجانا

المنهج الفريد في الاجتهاد والتقليد PDF

قراءة و تحميل كتاب المنهج الفريد في الاجتهاد والتقليد PDF مجانا

جدلية الدين مع الفلسفة والسلطة والحداثة PDF

قراءة و تحميل كتاب جدلية الدين مع الفلسفة والسلطة والحداثة PDF مجانا

جدلية الأنا والآخر في شعر أبي الطيب المتنبي: مغامرة في القراءة والتأويل PDF

قراءة و تحميل كتاب جدلية الأنا والآخر في شعر أبي الطيب المتنبي: مغامرة في القراءة والتأويل PDF مجانا

تاريخنا المفترى عليه PDF

قراءة و تحميل كتاب تاريخنا المفترى عليه PDF مجانا

قيمة الإنسان وغاية وجوده في الإسلام PDF

قراءة و تحميل كتاب قيمة الإنسان وغاية وجوده في الإسلام PDF مجانا

كيف نتعامل مع التراث والتمذهب والاختلاف PDF

قراءة و تحميل كتاب كيف نتعامل مع التراث والتمذهب والاختلاف PDF مجانا

الصحوة الإسلامية بين الآمال والمحاذير PDF

قراءة و تحميل كتاب الصحوة الإسلامية بين الآمال والمحاذير PDF مجانا

المزيد من الفكر والفلسفة في مكتبة الفكر والفلسفة , المزيد من النجاح وتطوير الذات في مكتبة النجاح وتطوير الذات , المزيد من مقارنة الأديان في مكتبة مقارنة الأديان , المزيد من السياسة في مكتبة السياسة , المزيد من علم النفس في مكتبة علم النفس , المزيد من الهندسة الشاملة في مكتبة الهندسة الشاملة , المزيد من محمد صلى الله عليه وسلم في مكتبة محمد صلى الله عليه وسلم , المزيد من أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية في مكتبة أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية , المزيد من غير مصنفة في مكتبة غير مصنفة
عرض كل المكتبة التجريبية ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..