أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي (164-241هـ / 780-855م) فقيه ومحدِّث مسلم، ورابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه الإسلامي. اشتُهر بعلمه الغزير وحفظه القوي، وكان معروفاً بالأخلاق الحسنة كالصبر والتواضع والتسامح، وقد أثنى عليه كثير من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: «خرجتُ من بغداد وما خلَّفتُ بها أحداً أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل»، ويُعدُّ كتابه "المسند" من أشهر كتب الحديث وأوسعها.
وُلد أحمد بن حنبل سنة 164هـ في بغداد ونشأ فيها يتيماً، وقد كانت بغداد في ذلك العصر حاضرة العالم الإسلامي، تزخر بأنواع المعارف والفنون المختلفة، وكانت أسرة أحمد بن حنبل توجهه إلى طلب العلم، وفي سنة 179هـ بدأ ابن حنبل يتَّجه إلى الحديث النبوي، فبدأ يطلبه في بغداد عند شيخه هُشَيم بن بشير الواسطي حتى توفي سنة 183هـ، فظل في بغداد يطلب الحديث حتى سنة 186هـ، ثم بدأ برحلاته في طلب الحديث، فرحل إلى العراق والحجاز وتهامة واليمن، وأخذ عن كثير من العلماء والمحدثين، وعندما بلغ أربعين عاماً في سنة 204هـ جلس للتحديث والإفتاء في بغداد، وكان الناس يجتمعون على درسه حتى يبلغ عددهم قرابة خمسة آلاف.
اشتُهر ابن حنبل بصبره على المحنة التي وقعت به والتي عُرفت باسم "فتنة خلق القرآن"، وهي فتنة وقعت في العصر العباسي في عهد الخليفة المأمون، ثم المعتصم والواثق من بعده، إذ اعتقد هؤلاء الخلفاء أن القرآن مخلوق محدَث، وهو رأي المعتزلة، ولكن ابن حنبل وغيره من العلماء خالفوا ذلك، فحُبس ابن حنبل وعُذب، ثم أُخرج من السجن وعاد إلى التحديث والتدريس، وفي عهد الواثق مُنع من الاجتماع بالناس، فلما تولى المتوكل الحكمَ أنهى تلك الفتنة إنهاءً كاملاً. وفي شهر ربيع الأول سنة 241هـ، مرض أحمد بن حنبل ثم مات، وكان عمره سبعاً وسبعين سنة.
ذاع علم أحمد بن حنبل واشتهر وهو حي يرزق، بل إن علمه بالحديث والأثر ذاع وهو لا يزال شاباً يتلقى العلم ويأخذ عن الشيوخ، وقد قال فيه أحمد بن سعيد الرازي وهو شاب: «ما رأيت أسْودَ الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه من أحمد بن حنبل»، وقال له شيخه الشافعي: «أنت أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان الخبر صحيحاً فأعلمني حتى أذهب إليه كوفياً كان أو مصرياً أو شامياً»، ورُوي عن الإمام الشافعي أيضاً أنه قال: «ما رأيت أعقل من أحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمي»، وقال معاصره علي بن المديني: «ليس فينا أحفظ من أبي عبد الله بن حنبل»، وقال أيضاً: «أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة وهو يزداد خيراً».
وينبغي الذكر أن أحمد بن حنبل كان يعرف اللغة الفارسية ويتكلم بها أحياناً، فقد رُوي أنه قدِم عليه من خراسان ابنُ خالته ونزل عنده، ولما قدَّم له الطعام كان ابن حنبل يسأله عن خراسان وأهلها وما بقي من ذوي أحمد بها، وربما استعجم القول على الضيف، فيكلمه أحمد بالفارسية.
قوة الحفظ
كان أحمد بن حنبل يمتاز بقوة الحافظة، وقد تضافرت الأخبار في ذلك يؤيد بعضها بعضاً، قال ابن حنبل: «كنت أذاكر وكيعاً بحديث الثوري، فكان إذا صلى العشاء خرج من المسجد إلى منزله، فكنت أذاكره، فربما ذكر تسعة أحاديث أو العشرة فأحفظها، فإذا دخل قال لي أصحاب الحديث: أملِ علينا، فأمليها عليهم فيكتبونها». كما شهد معاصروه بقوة حفظه وضبطه، فقد قيل لمعاصره أبي زرعة: «من رأيت من المشايخ والمحدثين أحفظ؟»، قال: «أحمد بن حنبل». وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبا زرعة يقول: «كان أحمد بن حنبل يحفظ ألفَ ألفِ حديث»، فقيل له: «وما يدريك؟»، قال: «ذاكرتُه فأخذتُ عليه الأبواب».
الصبر
اتصف أحمد بن حنبل بالصبر والجَلَد وقوة الاحتمال، وهذه هي أبرز صفاته، وهي التي أذاعت ذكره ونشرت خبره، وقد كانت هذه الصفة المزاج الذي اختص به الإمام أحمد، فجمع بها بين الفقر والجود والعفة وعزة النفس والإباء، وبين العفو واحتمال الأذى، وهي التي جعلته يحتمل ما يحتمل في طلب العلم، غير وانٍ ولا راضٍ بالقليل منه، يجوب الأقطار ويقطع الفيافي والقفار، راكباً إن أسعفته الحال، وماشياً إن ضاقت النفقة، ولما صار له شأن وتصدى للدرس والإفتاء نزل به البلاء الأكبر والمحنة العظمى، فكانت تلك الصفة هي عهدته، وبها كانت أهبته، فقد صبر وصابر الذين أنزلوا به الأذى، حتى ملوا الأذى ولم يهن ولم يستكن، ولم يستخذلهم ولم يجبهم إلى قولهم.
ومن الأخبار التي تدل على قوة جنانه وثباته أنه دخل على الخليفة في أيام المحنة، بعد أن هولوا عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم، وكانوا قد ضربوا عنق رجلين في حضرته، ولكنه في وسط ذلك المنظر المروع، وقع نظره على بعض أصحاب الشافعي، فسأله: «وأي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح على الخفين؟»، فأثار ذلك دهشة الحاضرين، وراعهم ذلك الجنان الثابت، حتى قال خصمه أحمد بن أبي دؤاد متعجباً: «انظروا لرجل هو ذا يُقدم به لضرب عنقه فيناظر في الفقه».
التواضع
كان أحمد بن حنبل متواضعاً متطامناً لعامة الناس، مقيلاً لعثراتهم، وقد حكى عنه تلميذه المروزي فقال: «لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لا يتصدر، ويقعد حيث انتهى به المجلس».
الهيبة
كان أحمد بن حنبل مهيباً من غير خوف، وموضعاً للإجلال والاحترام من غير رهبة، وكانت له هيبة حتى في نفس أساتذته، فقد كان بعض أساتذته يمزح مع بعض تلاميذه غير عالم بمكان أحمد من المجلس، فلما علم بمكانه لامهم إذ لم ينبهوه على وجوده حتى لا يمزح وهو في حضرته. وكانت الشرطة تهابه أيضاً، أما هيبة تلاميذه له فأعظم من ذلك، فقد قال فيه أحد تلاميذه: «كنا نهاب أن نرد أحمد في الشيء أو نحاجه في شيء من الأشياء»، وقال أحد معاصريه الذين تتلمذوا له: «دخلت على إسحاق بن إبراهيم، وفلان وفلان من السلاطين، فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل، صرت إليه أكلمه في شيء فوقعت علي الرعدة حين رأيته من هيبته»، وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام: «جالست أبا يوسف ومحمد بن الحسن ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي فما هبت أحداً منهم ما هبت أحمد بن حنبل».
صفته الشكلية
كان أحمد بن حنبل يوصف بالحُسن، قال أحمد بن العباس بن الوليد النحوي: سمعت أبي يقول: رأيت أحمد بن حنبل رجلاً حسن الوجه، ربعة من الرجال، يخضب بالحناء خضاباً ليس بالقاني، في لحيته شعرات سود، ورأيت ثيابه غلاظاً إلا أنها بيضاء، ورأيته مُعتمَّاً وعليه إزار. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: خضب أبي رأسه ولحيته بالحناء وهو ابن ثلاث وستين سنة. وكانت تعلوه سكينة ووقار وخشية، وكان نظيفاً في ملبسه، أنيقاً في هيئته في نطاق الحِفاظ على زهده، وقد وصفه تلميذه عبد الملك بن عبد الحميد الميموني بقوله: «ما أعلم أني رأيت أحداً أنظف ثوباً ولا أشد تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولا أنقى ثوباً وشدة بياض من أحمد بن حنبل».
كتبه ومؤلفاته
كان أحمد بن حنبل منقطعاً إلى العلم بصفة عامة وللحديث بصفة خاصة، ولذلك فإنه ترك رصيداً نفيساً من المؤلفات تندرج جميعاً تحت باب الحديث أكثر من اندراجها تحت أي باب آخر من العلوم الدينية، وحتى تلك التي لا يدل اسمها على أنها كتب حديث تعتمد أكثر ما تعتمد على الأحاديث النبوية، تأخذ منها مادتها وتنسج منها موضوعاتها.
وأما الكتب التي تنسب للإمام أحمد فهي:
المسند، وقد قام الإمام أحمد بجمعه طوال أيام حياته، وضمَّنه ثلاثين ألف حديث حسب رواية أبي الحسن بن المناوي، وذهب قوم إلى أن عدد أحاديث المسند أربعون ألفاً، على أن أحاديث المسند قد انتقيت من سبعمئة وخمسين ألف حديث رويت من أكثر من سبعمئة صحابي، وكان الإمام أحمد يُملي الأحاديث على خاصته وخصوصاً ولده عبد الله، كما كان يسجل بعضها في كثير من الأحيان بنفسه، ولكنه توفي قبل أن يُخرج العمل الكبير للناس بنفسه، فقام ابنه عبد الله على إعداده، وإضافة بعض ما سمع من أحاديث صحيحة نصَّ على أنه أضافها بعد وفاة أبيه...
أكثر العلماء من الثناء على أحمد بن حنبل قديماً وحديثاً، ومن ذلك قول الإمام الشافعي: «ثلاثة من عجائب الزمان، عربي لا يُعرب كلمة، وهو أبو ثور، وأعجمي لا يخطئ في كلمة، وهو الحسن الزعفراني، وصغير كلما قال شيئاً صدقه الكبار، وهو أحمد بن حنبل»، وقال أيضاً: «خرجت من بغداد وما خلفت بها أحداً أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل». وقال الربيع بن سليمان: قال لنا الشافعي: «أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة».
وقال قرينه ومعاصره القاسم بن سلام: «انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن شيبة، وأحمد أفقههم فيه»، وقال أيضاً: «ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة منه».
وقال يحيى بن معين: «والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ولا على طريقة أحمد»، وقال أيضاً: «ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبته خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الصلاح والخير».
وقال عبد الرحمن بن مهدي: «هذا أعلم الناس بحديث سفيان الثوري»، وقال أيضاً: «ما نظرت إلى أحمد بن حنبل إلا تذكرت به سفيان الثوري».
وقال إسحاق بن راهويه: «كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا، فكنا نتذكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فأقول: ما مراده؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيقفون كلهم إلا أحمد بن حنبل». وقال أيضاً: «الإمام أحمد بن حنبل حجة بين الله - تبارك وتعالى - وبين عبيده في أرضه».
وقال علي بن المديني: «اتخذت أحمد بن حنبل إماماً فيما بيني وبين الله، ومن يقوى على ما يقوى عليه أبو عبد الله؟»، وقال إبراهيم بن إسماعيل: قدم علينا علي بن المديني، فاجتمعنا عنده فسألناه الحديث، فقال: «إن سيدي أحمد بن حنبل أمرني ألا أحدِّث إلا من كتاب»، وقال: «ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدِّث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة حسنة».
وقال أبو عمير عيسى بن محمد الرملي: «رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره! وبالماضين ما كان أشبهه! وبالصالحين ما كان ألحقه! عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها».
أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن مرزُبان الكوفيّ (80-150 هـ/ 699-767م) فقيه وعالم مسلم، وأول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي. اشتهر بعلمه الغزير وأخلاقه الحسنة، حتى قال فيه الإمام الشافعي: «من أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة»، ويُعد أبو حنيفة من التابعين، فقد لقي عدداً من الصحابة منهم أنس بن مالك، وكان معروفاً بالورع وكثرة العبادة والوقار والإخلاص وقوة الشخصية. كان أبو حنيفة يعتمد في فقهه على ستة مصادر هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.
وُلد أبو حنيفة بالكوفة ونشأ فيها، وقد كانت الكوفة إحدى مدن العراق العظيمة، ينتشر فيها العلماء أصحاب المذاهب والشرائع المختلفة، وقد نشأ أبو حنيفة في هذه البيئة الغنية بالعلم والعلماء، فابتدأ منذ الصبا يجادل مع المجادلين، ولكنه كان منصرفاً إلى مهنة التجارة، فأبوه وجده كانا تاجرين، ثم انصرف إلى طلب العلم، وصار يختلف إلى حلقات العلماء، واتجه إلى دراسة الفقه بعد أن استعرض العلوم المعروفة في ذلك العصر، ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان يتعلم منه الفقه حتى مات حماد سنة 120 هـ، فتولى أبو حنيفة رئاسة حلقة شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يُعرض له من فتاوى، حتى وَضع تلك الطريقةَ الفقهيةَ التي اشتُق منها المذهب الحنفي.
وقعت بالإمام أبي حنيفة محنتان، المحنة الأولى في عصر الدولة الأموية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام زيد بن علي، ورفض أن يعمل عند والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة، فحبسه الوالي وضربه، وانتهت المحنة بخروجه إلى مكة عام 130 هـ، وظل مقيماً بها حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. أما المحنة الثانية فكانت في عصر الدولة العباسية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام محمد النفس الزكية، وكان يجهر بمخالفة المنصور في غاياته عندما يستفتيه، وعندما دعاه أبو جعفر المنصور ليتولى القضاء امتنع، فطلب منه أن يكون قاضي القضاة فامتنع، فحبسه إلى أن توفي في بغداد سنة 150 هـ، ودُفن في مقبرة الخيزران في بغداد، وبني بجوار قبره جامع الإمام الأعظم عام 375 هـ.
الهدوء والوقار
كان أبو حنيفة ضابطاً لنفسه، مستولياً على مشاعره، لا تعبث به الكلمات العارضة، ولا تبعده عن الحق العبارات النابية، وكان يقول: «اللهم من ضاق بنا صدره، فإن قلوبنا قد اتسعت له». ويُروى أنه قال له بعض مناظريه: «يا مبتدع يا زنديق»، فقال: «غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ذلك، وإني ما عدلت به مذ عرفته، ولا أرجو إلا عفوه، ولا أخاف إلا عقابه»، ثم بكى عند ذكر العقاب، فقال له الرجل: «اجعلني في حل مما قلت»، فقال: «كل من قال في شيئاً من أهل الجهل فهو في حل، وكل من قال في شيئاً مما ليس في من أهل العلم فهو في حرج، فإن غيبة العلماء تُبقي شيئاً بعدهم».
وروى الحسن بن إسماعيل بن مجالد عن أبيه، قال: كنت عند الرشيد إذ دخل عليه أبو يوسف، فقال له هارون: «صف لي أخلاق أبي حنيفة»، قال: «كان والله شديد الذب عن حرام الله، مجانباً لأهل الدنيا، وطويل الصمت دائم الفكر، لم يكن مهذاراً ولا ثرثاراً، إن سُئل عن مسألة عنده منها علم أجاب فيها، ما علمته يا أمير المؤمنين إلا صائناً لنفسه ودينه، مشتغلاً بنفسه عن الناس لا يذكر أحداً إلا بخير»، فقال الرشيد: «هذه أخلاق الصالحين».
وعن بشر بن يحيى: سمعت ابن المبارك يقول: «ما رأيت رجلاً أوقر في مجلسه، ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة، ولقد كنا عنده في المسجد الجامع، فوقعت حية من السقف في حجره، فما زاد على أن نفض حجره، فألقاها وما منا أحد إلا هرب».
الإخلاص والتواضع
كان أبو حنيفة مخلصاً في طلب الحق، وكان لإخلاصه لا يفرض أن رأيه هو الحق المطلق الذي لا يشك فيه، بل كان يقول: «قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا». وقيل له: «يا أبا حنيفة، هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه»، فقال: «والله لا أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه». وكان أبو حنيفة لإخلاصه في طلب الحق يرجع عن رأيه إذا ذَكر له مناظرُه حديثاً لم يصح عنده غيره ولا مطعن له فيه، أو ذكرت له فتوى صحابي كذلك.
قوة الشخصية
اتصف أبو حنيفة بقوة الشخصية، والنفوذ والمهابة، والتأثير في غيره بالاستهواء والجاذبية وقوة الروح، وقد وصف مجلس أبي حنيفة مع أصحابه معاصره مسعر بن كدام، فقال: «كانوا يتفرقون في حوائجهم بعد صلاة الغداة، ثم يجتمعون إليه فيجلس لهم، فمن سائل ومن مناظر، ويرفعون الأصوات لكثرة ما يحتج لهم، إن رجلاً يُسكن الله به هذه الأصوات لعظيمُ الشأن في الإسلام».
صفته الشكلية
كان الإمام أبو حنيفة أسمرَ اللون مع ميل إلى بياضه، ربعةً من الناس، إلى الطول أقرب، جميلَ الصورة، مهيبَ الطلعة، طويلَ اللحية، وقوراً، يتأنق في ثوبه وعمامته ونعليه، حسنَ المنطق، حلوَ النغمة فصيحاً، كثيرَ التطيب يُعرف به إذا ذهب وإذا جاء، نحيفاً "ما أبقى عليه خوفه من الله تعالى وطول مراقبته وكثرة عبادته فضلاً من لحم بَلْه من شحم".
قال أبو نعيم بن دكين: «كان أبو حنيفة جميلاً، حسنَ الوجه، حسنَ اللحية، حسنَ الثوب». وقال أبو يوسف: «كان أبو حنيفة ربعة من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، وكان أحسن الناس منطقاً، وأحلاهم نغمةً، وأبينهم عما تريد». وقال عمر بن جعفر بن إسحاق بن عمر بن حماد بن أبي حنيفة: «إن أبا حنيفة كان طويلاً تعلوه سمرة، وكان لَبَّاساً حسنَ الهيئة كثيرَ التعطر، يُعرف بريح الطيب إذا أقبل وإذا خرج من منزله قبل أن تراه». وقال علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة الكوفي بمصر: سمعت أبي، يقول: «رأيت شيخاً في مسجد الكوفة يفتي الناس وعليه قلنسوة طويلة، فقلت من هذا؟»، قالوا: «أبو حنيفة».
شيوخه
شيوخ الإمام أبي حنيفة كثيرون لا يسع ذكرهم، وقد ذكر منهم الإمام أبو حفص الكبير أربعة آلاف شيخ، وقال غيره: «له أربعة آلاف شيخ من التابعين، فما بالك بغيرهم؟»، ومن شيوخه: أنس بن مالك. وقد روى الإمام أبو حنيفة عن كثير من الشيوخ منهم: عطاء بن أبي رباح، وهو أكبر شيخ له وأفضلهم على ما قال، والشعبي، وطاووس، وجبلة بن سحيم، وعدي بن ثابت، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعمرو بن دينار، وأبي سفيان طلحة بن نافع، ونافع مولى ابن عمر، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، ومحارب بن دثار، وعلقمة بن مرثد، وعبد العزيز بن رفيع، وحماد بن أبي سليمان وبه تفقه، وسماك بن حرب، وعبد الملك بن عمير، وأبي جعفر الباقر، وابن شهاب الزهري، ومحمد بن المنكدر، وعطاء بن السائب، وهشام بن عروة، وخلق سواهم.
تلاميذه
حدَّث عن الإمام أبي حنيفة خلقٌ كثير منهم: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، وأبو الهذيل زفر بن الهذيل العنبري، وإبراهيم بن طهمان عالم خراسان، وأبيض بن الأغر بن الصباح المنقري، وأسد بن عمرو البجلي، وإسماعيل بن يحيى الصيرفي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحفص بن عبد الرحمن القاضي، وابنه حماد بن أبي حنيفة، وحمزة الزيات وهو من أقرانه، وداود الطائي، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ، ومحمد بن الحسن الشيباني، ويوسف بن خالد السمتي، وغيرهم كثير.
ذرية أبي حنيفة
ابنُ أبي حنيفة اسمُه "حمّاد"، سمّاه أبوه على اسم شيخه حماد بن أبي سليمان، وكان إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة قاضياً، وقد توفي عام 212 الهجري، واستمرت ذرية أبي حنيفة إلى منتصف القرن التاسع الهجري، وآخر من انتسب إلى أبي حنيفة هو الشيخ حميد الدين محمد بن أحمد النعماني البغدادي، قاضي دمشق، المتوفى يوم 6 ربيع الأول من عام 867 الهجري، تُوفي في المدرسة العينية، ودُفن عند سفح جبل قاسيون.
انتشار المذهب الحنفي عبر التاريخ
أماكن انتشار المذهب الحنفي (اللون الأخضر الفاتح) في العالم
يُسمى المذهبُ الحنفي مذهبَ أهل الرأي، وهو أقدم المذاهب الأربعة، وصاحبه هو الإمام أبو حنيفة النعمان، وقد نشأ المذهب الحنفي بالكوفة موطن الإمام أبي حنيفة، ثم تدارسه العلماء بعد وفاة شيخه ببغداد، ثم شاع من بعد ذلك وانتشر في أكثر البقاع الإسلامية، فكان في مصر والشام وبلاد الروم والعراق وما وراء النهر، ثم اجتاز الحدود فكان في الهند والصين، حيث لا منافس له ولا مزاحم، ويكاد أن يكون هو المنفرد في تلك الأصقاع إلى الآن.
ويقال لأصحاب المذهب الحنفي أهل الرأي، لأن الحديث كان قليلاً بالعراق، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه. ورُوي أن أصحاب أبي حنيفة الذين دونوا مذهبه أربعون رجلاً منهم: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، وأبو الهذيل زفر بن الهذيل العنبري، وأن أول من كتب كتبه أسد بن عمرو.
إيثار الحنفية بالقضاء في العصر العباسي
لما تولى هارون الرشيد الخلافة، ولى القضاء أبا يوسف صاحب أبي حنيفة، وذلك بعد سنة 170هـ، وأصبحت تولية القضاء بيده، فلم يكن يولي ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر (إلى أقصى عمل إفريقية) إلا من أشار به، وكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه، فاضطرت العامة إلى أحكامهم وفتاواهم، وفشا المذهب في هذه البلاد فشواً عظيماً، حتى قال ابن حزم: «مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرئاسة والسلطان: الحنفي بالمشرق، والمالكي بالأندلس». ولم يزل هذا المذهب غالباً على هذه البلاد لإيثار الخلفاء العباسيين بالقضاء، حتى تبدلت الأحوال وزاحمته المذاهب الثلاثة الأخرى. وبلغ من تمسكهم به في القضاء أن القادر بالله استخلف مرة قاضياً شافعياً هو أبو العباس أحمد بن محمد البارزي الشافعي عن أبي محمد بن الأكفاني الحنفي قاضي بغداد، فشاع أن الخليفة نقل القضاء عن الحنفية إلى الشافعية، فاشتهر ذلك وصار أهل بغداد حزبين ثارت بينهما الفتن، فاضطر الخليفة إلى صرف البارزي، وإعادة الحنفية إلى القضاء، وذلك في سنة 393هـ.
انتشاره في المغرب وصقلية
كان الغالب على إفريقية السنن والآثار، إلى أن قدم عبد الله بن فروح أبو محمد الفاسي بمذهب أبي حنيفة، ثم غلب عليها لما ولي قضاءها أسد بن الفرات بن سنان، ثم بقي غالباً عليها حتى حمل المعز بن باديس أهلها على المذهب المالكي، وهو الغالب إلى اليوم على أهلها إلا قليلاً منهم يقلدون المذهب الحنفي. ورُوي أن المذهب الحنفي ظهر ظهوراً كثيراً بإفريقية إلى قريب من سنة 400هـ، فانقطع ودخل منه شيء إلى ما وراءها من المغرب قريباً من الأندلس ومدينة فاس. كما رُوي أن أهل صقلية حنفيون.
انتشاره في مصر
كان أهل مصر لا يعرفون المذهب الحنفي حتى وَلَّى الخليفة المهدي قضاءها لإسماعيل بن اليسع الكوفي سنة 146هـ، وهو أول قاضٍ حنفي بمصر، وأول من أدخل إليها المذهب الحنفي، وكان من خير القضاة، إلا أنه كان يذهب إلى إبطال الأحباس، فثقل أمره على أهل مصر وقالوا: «أحدث لنا أحكاماً لا نعرفها ببلدنا»، فعزله المهدي.
ثم فشا المذهب الحنفي فيها بعد ذلك مدة تمكِّن العباسيين، إلا أن القضاء بها لم يكن مقصوراً على الحنفية، بل كان يتولاه الحنفيون تارة، والمالكيون أو الشافعيون تارة أخرى، إلى أن استولى عليها الفاطميون، وأظهروا مذهب الشيعة الإسماعيلية، وولوا القضاة منهم، فقوي هذا المذهب بالدولة، وعمل بأحكامه، إلا أنه لم يَقض على المذاهب السنية في العبادات، لأنهم كانوا يبيحون للرعية التعبد بما يشاؤون من المذاهب.
ثم لما قامت الدولة الأيوبية بمصر، وكان من سلاطينها شافعية، قضوا على التشيع فيها، وأنشأوا المدارس للفقهاء الشافعية والمالكية. وكان نور الدين الشهيد حنفياً، فنشر مذهبه ببلاد الشام، ومنها كثرت الحنفية بمصر، وقدم إليها أيضاً عدة فقهاء منهم من بلاد المشرق، فبنى لهم صلاح الدين الأيوبي المدرسة اليوسفية بالقاهرة، وما زال مذهبهم ينتشر ويقوى، وفقهاؤهم يكثرون بمصر، إلا في آخر هذه الدولة. وأول من رتب دروساً أربعة للمذاهب الأربعة في مدرسة واحدة هو الصالح نجم الدين أيوب في مدرسته الصالحية بالقاهرة سنة 641هـ. ثم فشا هذا النوع من المدارس في الدولتين التركية والجركسية، وحدث في الأولى جعْلُ القضاة أربعة، فعاد الحنفية إلى القضاء بعد انقطاعهم عنه مدة الفاطميين، والاقتصار مدة الأيوبيين على نواب منهم ومن المالكية والحنابلة عن القاضي الشافعي.
ثم لما فتح العثمانيون مصر حصروا القضاء في الحنفية، وأصبح المذهب الحنفي مذهب أمراء الدولة وخاصتها، ورغب كثير من أهل العلم فيه لتولي القضاء، إلا أنه لم ينتشر بين أهل الريف (الوجه البحري) والصعيد انتشاره في المدن ولم يزل كذلك إلى اليوم.
انتشاره في البلاد الإسلامية الأخرى
أما بدء دخول المذهب الحنفي في سائر البلاد الإسلامية فكان في القرن الرابع الهجري، وقد كان المذهب الحنفي هو الغالب على أهل صنعاء وصعدة باليمن، والغالب على فقهاء العراق وقضائه، وكان منتشراً بالشام، تكاد لا تخلو فيه قصبة أو بلد من حنفي، وربما كان القضاء منهم، إلا أن أكثر العمل فيها كان على المذهب الفاطمي في زمنه، أي كما كان بمصر. وكان المذهب الحنفي في إقليم الشرق أي خراسان وسجستان وما وراء النهر وغيرها، إلا في بلاد منها كان أهلها شافعية، وكان أهل جرجان وبعض طبرستان من إقليم الديلم حنفية. وكان غالباً على أهل دبيل من إقليم الرحاب الذي منه الران وأرمينية وأذربيجان وتبريز، وموجوداً في بعض مدنه بلا غلبة. وكان غالباً على أهل القرى من إقليم الجبال، وكثيراً في إقليم خوزستان المسمى قديماً الأهواز، وكان لهم به فقهاء وأئمة كبار. وكان بإقليم فارس كثير من الحنفية، إلا أن الغلبة كانت في أكثر السنين للظاهرية، وكان القضاء فيهم. وكانت قصبات السِّند لا تخلو من فقهاء حنفية، كما أن أهل سجستان كانوا حنفية، وكان ملوك بنجالة بالهند جميعاً حنفية.
كتاب من روائع الأئمة الأربعة ابو حنيفه
كتب الائمه الاربعه pdf
كتب الائمة الاربعة
قصص الائمة الاربعة
قصص ابو حنيفة pdf
1000 قصة وقصة من حياة الأئمة الأربعة pdf
كتاب ترجمة الائمة الاربعة
قراءة و تحميل كتاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وأسرته PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب محمد رشيد رضا طود وإصلاح دعوة وداعية PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب من روائع الأئمة الأربعة الامام مالك PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب الإمام الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب عالم الحجاز والشام PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب أم عمارة نسيبة بنت كعب الصحابية المجاهدة PDF مجانا